الخميس، 15 ديسمبر 2011

الموازنة منهج نقدي


                                         الموازنة منهج نقدي

    تتيح الموازنة للناقد أن يتعرف على الاتجاهات الأدبية المختلفة عن طريق تحليل نصوص أكثر من مبدع، هذا ما فعله الناقد العربي الحسن بن بشر الآمدي البصري (ت 370هــ ) في كتابه "الموازنة بين أبي تمام والبحتري، إن القراءة النصية المتعمقة في رصد جماليات الصياغة والخصائص التعبيرية وأساليب المبدعين وصورهم وموقفهم من التراث ومحاولاتهم التجديد وطرائقهم في مخاطبة المتلقي والتفاعل مع الذوق السائد بحرص أو بتمرد واقتناصهم للأفكار، يمكن أن تكون سبيلا لتحديد الاتجاهات الأدبية والمدارس الفنية.
    الآمدي قدم ثنائية طريفة مازالت تطرح نفسها في ثقافتنا العربية حتى الآن هي ثنائية الجمال والفكر، فهو يقدم أبا تمام بوصفه نموذجا للمفكر في مقابل عرضه لجماليات البحتري الذي يراه نموذجا للشاعر الموهوب القادر على ارتياد آفاق الجمال بتلقائية.
    إن الآمدي يقدم نموذجين للإبداع: المبدع الفيلسوف ويتمثل في إبي تمام، ووالمبدع الفنان المتدفق المؤثر في الذوق والوجدان وهو البحتري.
    أبو تمام هو قناص الأفكار البعيدة بصياغته الغريبة المتمردة على عمود الشعر أو النموذج الشعري التقليدي.
    والبحتري هو الروح الفياضة التي تجري بيسر في نهر الشعرية محافظة على النموذج المثالي بالإيقاع المؤثر والصور الرائعة.

الجمعة، 2 ديسمبر 2011

الرؤية والتشكيل بين المبدع والمتلقي


ثنائية الإبداع والتلقي عند العرب

المفارقة بين الواقع والفن

أدرك مؤرخ الأدب العربي الأصفهاني أن الأدب وليد تجربة شعورية خاصة لا ييمكن أن يتمثلها المتلقي إن لم يكن في حالة قريبة من حال المبدع أو كانت الصورة المقدمة له في العمل الإبداعي تختلف إلى حد كبير عن صورة الموضوع أو المرجع نفسه في الواقع.

    الخبر الآتي لشعر عروة بن أذينة في رثاء أخيه بكر حينما أنشده أحد المغنين في قصر الوليد بن يزيد، يقول الراوي: حدّث الزبيري عن خالد صامة، وكان أحد المغنين قال: قدمتُ على الوليد بن يزيد، فدخلت إليه، وهو في مجلس ناهيك به، وهو على سرير، وبين يديه معبد ومالك وابن عائشة وأبو كامل، فجعلوا يغنون حتى بلغتْ النوبة إلىَّ، فغنيته:

سَرى هَمّي وَهَمُّ المَرءِ يَسري







وَغارَ النَجمُ إِلّا قيسَ فِترِى

أُراقِبُ في المَجَرَّةِ كُلَّ نَجمٍ







تَعَرَّضَ لِلمَجَرَةِ كَيفَ يَجري

لهَمٍّ لا أَزالُ لَهُ مُديماً







كَأَنَّ القَلبَ أُسعِرَ حَرَّ جَمرِ

عَلى بَكرٍ أَخي وَلّى حَميداً







وَأَيُّ العَيشِ يَصفو بَعدَ بَكرِ


فقال لي الوليد: أعد يا صام، ففعلت فقال لي: من يقول هذا الشعر؟ قلت: عروة بن أذينة يرثى أخاه بكرًا. فقال لي: وأيُّ العيش لا يصفو بعده، هذا العيشُ والله الذي نحن فيه على رغم أنفه، والله لقد تحجرَّ واسعًا».

في هذا الخبر يستقبل المتلقي الشعر في ظروف مختلفة تمامًا عن ظروف قوله: فعروة يبكي أخاه في لحظة حزن شديدة يرى فيها أن كل العيش بعد أخيه لا يمكن أن يكون فيه شيء جميل أو متعة صفاء أو سعادة... أما الوليد بن يزيد فيجلس في قصره ومعه مجموعة من أهل الغناء يعيشون في موقف مغاير كل المغايرة لموقف عروة، وبالتالي يرى الوليد أن عروة قد ضيّق على نفسه وأن الدنيا بها ملذات كثيرة ولن تقف عند رحيل بكر..

إن القضية ليست في صفاء الحياة بوجه عام، أو ليست في معنى السعادة من الناحية النظرية المجردة، ولكن القضية في طبيعة الإنسان وسياقه النفسى وعالمه الخاص الذي شَكَّل رؤيته وسلوكه، لذلك قال عروة ما يدل على أن الحياة لن يكون فيها صفاء بعد رحيل أخيه، وهو بالطبع يقصد حياته، لأنه شارك هذا الأخ في أشياء كثيرة ومشاعر خاصة وسلوك يومي، وزمن التكوين الأول الذي جمعهما في الأسرة وطفولة بلا مسئولية، ومراهقة وشباب وأحلام ولحظات لم يعرفها غيرهما، وهذا ما يجعل بالطبع صفو الحياة عن عروة يختلف عن صفوة الحياة عند الوليد بن يزيد.

والخبر الآتي يعرض موقفًا يختلف عن موقف عروة ووجهة نظر تغاير وجهة نظره وهذه المرة من أديبة وناقدة عربية كبيرة لها آراء بليغة في الفكر والأدب والثقافة تحفل بها كتب التراث هي السيدة سُكينة بنت الحسين، وشخصية سُكينة الأدبية تحتاج إلى دراسة موسعة فهي تثبت أن المرأة العربية كانت صاحبة رأي وفكر وأدب وبلاغة تعلّم منها الرجال فنون القول يقول الخبر: «حدثنا الأخفش عن محمد بن يزيد قال: قال الزبيري: حُدِثت أن سكينة بنت الحسين عليه السلام أُنشِدت هذا الشعر فقالت: من بكر هذا؟ أليس هو الأسود الدحداح (القصير) الذي كان يمر بنا؟ قالوا: نعم!، قالت: لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبز والزيت..».

إن نص سكينة من روائع الأدب الساخر، فقد جردّت شخصية بكر من البعد العاطفي الذي أضفاه عليه أخوه عروة، فإذا به شخص عادي لا يمتلك مقومات تغيير صفو الحياة من وجهة نظرها، بل لقد رأت ما هو أبعد من ذلك، وهو أن عدم وجوده لم يغير الدنيا إلى الأسوأ، لقد رحل وظل جمال الحياة باقيًا، بل إن أقل الأشياء مازالت طيبة حتى الخبز والزيت، والطريف أن هذا الرأي لا يخلو من البعد النسائي لناقدة تنظر بعين المرأة للرجال وعناصر الحياة التي تقيم البيت، ويعلن هذا الرأي عن ذات تنظر إلى المستقبل بواقعية وتعرف كيف تطرح نصًا مقابلاً ضاحكًا من نصٍ عاطفي حزين.

إن الخبر الآتي يوضح الحياة الأدبية والنقدية في العصر الأموي ويبين كيف كان الشعراء نقادًا لهم آراء في غاية الخطورة لم تجذب بعد دراسي النقد: «حدثني محمد بن سهل راوية الكميت عن الكميت، قال: لما قدم ذو الرمة أتيتُه فقلتُ له: إني قد قلتُ قصيدةً عارضتُ بها قصيدتك:

ما بال عينك منها الماء ينسكب...

فقال لي: وأي شيء قلت؟ قال: قلتُ:

هل أنت عن طلب الأيفاع منقلبُ

                                   أم هل يُحَسِّن من ذي الشيبة اللعبُ؟

حتى أنشدتُه إياها، فقال لي: ويحك! إنك لتقول قولاً ما يقدر إنسانٌ أن يقول لك أصبتَ ولا أخطأت، وذلك أنك تصِفُ الشيءَ فلا تجيء به، ولا تقعُ بعيدًا منه، بل تقع قريبًا. قلت له: أو تدري لِمَ ذلك؟ قال: لا. قلتُ: لأنك تصف شيئًا رأيتَه بعينك، وأنا أصِفُ شيئًا وُصف لي، وليست المعاينةُ كالوصف. قال: فسكتٌ».

.. عن حماد الراوية، قال: كانت للكُميت جدَّتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعرٍ أو خبرٍ عرضه عليهما فيخبرانه عنه، فمِنْ هناك كان علمه».

فالخبر يوضح كيف يحكم الشاعر على الصورة الشعرية عند زميله، وكيف تكون هذه الصورة أحيانًا غير متطابقة مع الواقع،  وفي الوقت نفسه غير بعيدة عنه، فهي أشبه بالجملة الإنشائية التي لا تحتمل الصدق أو الكذب، وهذه سمة فنية مهمة في الإبداع الشعري، أو أن هناك بالفعل نوعين من الشعراء، نوع مثل الفنان الرسام الذي يحاكي الواقع، والنوع الثاني يتخذ من الواقع مادة يرسمها بأسلوبه، أو يستخرج المخزون الذهني له، ويعبر عنه وفقًا لرؤيته الداخلية، وهذا قول خطير يوضح أن النقد العربي القديم كان يفهم معنى التصوير بأكثر من دلالة، فهناك تصوير واقعي يمكن أن نطلق على أصحابه لفظ الواقعيين، وهناك تصوير آخر يستدعي الواقع ولا يحاكيه ويمكن أن نطلق على أصحابه لفظ الإيحائيين أو لفظ الانطباعيين أو لفظ التأثيريين، وبالطبع لم يستخدم العربي القديم هذه الألفاظ، ولكنه كان يفهم الدلالات والمعاني النقدية من خلال الفهم الواعي للإبداع الشعري.

التماهي الدرامي:

لا شك أن الدراما مؤثرة في حياة الناس، وكان شعر عمر بن أبي ربيعة شعرًا دراميًا فيه العناصر التي تحقق المفهوم الدرامي في النص: فيه الشخصيات الأساسية المحورية والشخصيات الثانوية: البطل والبطلة، والرقباء، والذي يساعد البطل والذي يعارضه وأهل الحي وصديقات البطلة الملهمة وأصدقاء البطل المغامر وتطور الأحداث والنهاية السعيدة حين يقابل البطل ملهمته، وينشد أشعاره بعد هذا اللقاء، فمعظم قصائد عمر فيها هذه العناصر الدرامية لأنها تصور مغامرة عن طريق الحكاية التي تصاحب القصيدة.

وحينما نقول التماهي الدرامي فنحن نقصد أن المتلقي يعايش التجربة مع أبطالها فيتحد ببعض شخصياتها أو يتمنى أن يجد لنفسه دورًا فيها، والأكثر طرافة من ذلك أن هذا المتلقي قد يقوم بدور في الحياة يحقق من خلاله دعوة العمل الدرامي فيستمع إلى النص ويستجيب لما فيه، وهو سعيد بذلك.

في بعض الأفلام الأجنبية على سبيل المثال يأتي رجل الغابة إلى المدينة فيشاهد التلفاز ويرى مذيع النشرة الجوية، وهو يقول: إن الجو صحو، لذلك عليك أيها المشاهد الكريم أن تخرج وتستمتع بالحياة، فيبتسم البطل للمذيع ويهز رأسه ويندفع خارجًا للاستمتاع بالحياة، وهذا ما نجده مع شعر عمر بن أبي ربيعة في الخبر الآتي: «لما بلغ ابن أبي عتيق قولُه:

مَن رَسولي إِلى الثُرَيّا فإني







ضِقتُ ذَرعاً بِهَجرِها وَالكِتابِ


قال: إياي أراد، وبي نَوَّه، لا جَرَمَ لا أذوق أكلاً حتى أشخص فأصلح بينهما. قال بلال، مولي ابن أبي عتيق: فنهض ونهضتُ معه...».

إن ابن أبي عتيق في هذا الخبر يقوم بمهمة المساعد الذي يستمع إلى شكوى البطل فيقرر أن يقف بجانبه، وبالطبع هذا خبر قصصي أي أننا أمام نص أدبي آخر غير الشعر، نص قصصي يأتي فيه الشعر داخل القصة، وتحكي القصة عن موقف فيه أزمة وبطل مأزوم وشخص يساعده لتحقيق ما يريد، وهذه الأخبار القصصية تنتشر انتشارًا كبيرًا في كتب الأدب العربي، وتعد ثروة أدبية تصور الحياة الثقافية والاجتماعية في بعض جوانبها، ولكنها أيضًا تقدم مادة درامية غزيرة في الكم والكيف للمبدع المعاصر كي يستلهمها ويحولها إلى دراما تاريخية متعددة الاتجاهات فمنها ما يصور الحياة العاطفية ومنها ما يعرض لحياة القصور والأمراء أو الفقهاء والعلماء أو الفتوحات والحروب، والذي يشاهد الدراما التليفزيونية اليوم المصرية منها والسورية يعرف أن كتاب الدراما التاريخية قد أفادوا إفادة كبيرة من الأخبار القصصية العربية.

وفي موضوع التماهي الدرامي هذا نعلق على الرؤية العربية للمساعد في قصص الحب كما يتمثل هذا المساعد هنا في شخصية ابن أبي عتيق، إن العقل العربي يحترم الشعر، والعاطفة والإلهام، وحينما يساعد ابن أبي عتيق صديقه عمر بن أبي ربيعة بحل الخلاف الذي جعل «الثريا» تهجره، فإنه إنما يفعل ذلك من باب الكرم النفسي الذي يساند المبدع العاشق، فالحبيبة هنا ليست شخصية اجتماعية بقدر ما هي مصدر الإلهام، وعمر هو القرشي الذي يتفوق على شعراء القبائل الأخرى، ويحقق لأهله مكانة في التاريخ الأدبي، ويجعل العواطف الإنسانية متجهة إلى صوته وقبيلته ولغته الجميلة، ولهذا فهو يستحق أن يجد حوله المساعد الذي يخفف عنه ألمه ويصالح بينه وبين ملهمته، وبالطبع يمكن أن يكون الخبر صادقًا أو كاذبًا، لأن الخبر القصصي لا يُقدَّم بوصفه تاريخًا موثقًا، وإنما يتم تناوله بوصفه يجمع بين الواقع والحلم أو الحادثة التاريخية والوهم الشعبي الذي يريد أن يتصورها على نحو ما، وهذا يعني أن المؤرخ يجب أن يحتاط حينما يتعامل مع الأخبار القصصية فيقوم بمراجعتها من ناحية السند والمتن ليتأكد من صحتها، أما الأديب الناقد فهو يتعامل معها تعاملاً آخر إذ يجد فيها الملامح الثقافية التي تعكس الحياة وتوضح طرائق التفكير والتعبير وتصور السمات الاجتماعية العامة للبشر والطبائع النفسية للمجتمعات، وفي مكتبتنا التراثية مادة ضخمة من الأخبار القصصية في كتب مثل الأغاني للأصفهاني والكامل للمبرد، والبخلاء للجاحظ، وكل هذه الأخبار تطرح مادتها أمام المؤرخ والأديب والناقد، وكل واحد من هؤلاء يتعامل معها بمنهجه ووفق اهتماماته وفي مجال تخصصه.

الجمعة، 18 نوفمبر 2011

النظرية الأدبية عند العرب: رؤية تداولية


النظرية الأدبية عند العرب

رؤية تداولية (سوق/ صناعة)

من سوق عكاظ إلى كتاب الصناعتين

د. س. قطب

    هل الأدب سلعة؟

    قد يرفض بعض محبي الأدب من أصحاب النظرة الرومانسية هذا السؤال لأن الأدب في تصورهم أرقى من تناوله باعتباره منتجا ماديا يتم تداوله في الأسواق مثله مثل السلع التي تكتسب قيمتها من مفهوم الاستهلاك الذي تنظمه عملية العرض والطلب وتتحكم فيه قوى الإنتاج التجارية الصناعية. فالأدب من منظور رومانسي أرقى من السلع الخاضعة لحسابات مادية ومعايير إنتاج وسياق استهلاك واحتياجات اجتماعية لأن الآداب كائن حيوي جمالي نابع من أعماق النفس التي تمتلك موهبة وتسعى للبوح وتتخفف بالتعبير دون أن تضع في اعتبارها حسابات المكسب والخسارة وتقدير قيمة العمل الأدبي من ناحية مادية فهذا يفقده خصوصيته. ولأن النظرة الرومانسية ترى المبدع مركزا للكون والرؤية ومعبرا عن إحساس خاص بصفته روحا غربية متفردة بالتالي يتشكل مفهوم الإبداع عندها من هذه الخصوصية التي تباعد بين العمل الفني وكل أشكال التحقق المادي التي يستهلكها المجتمع.

    لكن أحدا لا يختلف على أن الأدب كيان تم إنتاجه مثلما يتم تداوله بين البشر لغايات مختلفة، بل إن النظرة إلى بعض الأعمال التي ينتجها الإنسان لغاية جمالية بحتة مثل التحف الفنية لا يمكن أن تلغي مفهوم السلعة عن هذه الأعمال التي تعرض في الأسواق فتباع وتشترى ويقدر الخبراء قيمتها التي تتزايد مع مرور الزمن، هذه الأعمال صادرة عن مبدع موهوب ماهر في تشكيل عمله الفني المتميز بالأصالة والمحتفظ بمقومات الاتساق والتناسق وكل ما يحقق له جماليات التكوين من منظور الذوق الإنساني المعاصر له بالفعل أو القادم في أفق الزمان. وكل شيء تم إنتاجه وتداوله وتقدير قيمته سواء اتفق المتخصصون من أهل هذه الصناعة على قيمته أم اختلفوا عليها فهو سلعة لها سوق لاستهلاكه من ناحية ولها معايير إنتاج متأثرة بهذا السوق من ناحية أخرى.

    أطلق العرب القدماء على المكان الذي يعرضون فيه الشعر ويتناقشون بصدده ويبحثون عن أسباب جودته وسبل إتقانه والمآخذ الممكن اجتنابها فيما تم إنتاجه ويقدرون قيمته في ضوء إجادة صاحبه لعمله اسم "سوق عكاظ". بالطبع يقدم لنا تعبير "سوق" مفهوما تداوليا لعملية إنتاج الشعر بوصفه سلعة لها آليات صناعة ومعايير تتحكم في مادته وأغراض استهلاك يتوجه إليها صاحب الصنعة الذي أتى إلى "السوق" لمعرفة قيمة عمله والإفادة من آراء أهل الخبرة.

    كان "سوق عكاظ" معرضا لتداول الشعر بوصفه منتجا مهما في حياة العربي يفيد منه ويستهلكه ويعيش به فالشعر من هذه الزاوية سلعة إن لم يكن من أهم السلع في سياق الاستهلاك، إن الشعر سلعة يتم توظيفها في السياسة والاجتماع والحياة العاطفية، سلعة لها قيمتها التداولية في أسواق التداول، سلعة لها سوق خاص بها هو "سوق عكاظ".

    إذا واصلنا التظر إلى النظرية الأدبية عند العرب القدماء من خلال رؤية تداولية  سنجد أن كلة سلعة تتطلب صناعة، فهي منتج مادي له معايير، هذا ما يؤكده أبو هلال العسكري صاحب "كتاب الصناعتين" وهما الشعر والنثر (الذي يؤدي دورا مهما في مؤسسات الدولة بوصفه مرتبطا بالدواوين الحكومية، بمعنى أن الكاتب البليغ الذي يكتب المراسلات الرسمية صاحب صناعة).

    من الرؤية التداولية التي نتناول بها النظرية الإبداعية عند العرب والوظائف التي يؤديها الإبداع سنجد أن مصطلح "النقد" يؤدي دورا مهما في ترسيخ مفهوم "الإنتاج والقيمة" بالنسبة للأدب لأن مصطلح "النقد" يرتبط بدائرتين في أنشطة الحياة: دائرة الاقتصاد (النقد يعني العملة) ودائرة الأدب (النقد يحدد قيمة العمل الأدبي) وقديما ضرب ابن سلام صاحب كتاب "طبقات فحول الشعراء" مثلا للناقد الأدبي بالصيرفي الذي يعرف العملة الحقيقية (المصنوعة/ المسبوكة) من الذهب (الدينار) أو الفضة (الدرهم) من العملة الزائفة التي لا قيمة لها.  

الاثنين، 14 نوفمبر 2011

مفهوم التبيين


                                        مفهوم التبيين
                                        د. س. قطب
    إن عملية "التبيين" تعني صياغة الصور الذهنية المنعكسة في مرآة الذات بصدد مرجع ما سواء أكان ماديا أم معنويا، أي تعني فن صناعة الصور الذهنية كما تتراءى في المخيلة، هذه الصور (اللوحات البيانية) يقوم الصانع (فاعل البيان) بمحاولة تصديرها للآخرين، أي أنها أداة دعائية تغزو أذهان الآخرين أو تسعى لأن تشغل (صفحات / مرايا/ مشاعر) الإنسانية التي يرسل لها بيانه. لكن الآخرين يملكون صفحاتهم بالتالي يحدث جدل بين الرسائل تنتج عنه صور جديدة أو رسائل بيانية لا حصر لها. إننا حينما نمارس عملية "التبيين" بإنتاج رسائل بيانية قابلة للتأمل تنعكس فيها رؤيتنا للعالم فإننا نضع هذه الرؤى في دائرة الفكر. وعلينا أن نتأمل "انعكاس" مرجعية العالم من أكثر من منظور. علينا أن نضع وجهات النظر المختلفة أمامنا ونتناولها بالفكر النقدي. وصياغة الموقف النقدي القادر على "تبيين" فعل "الانعكاس" أي القراءة الموضوعية للصور المنعكسة في البيان هو هدف الجاحظ من رسالته. إن الجاحظ ناقد لقصور الرؤية الإنسانية لأن هذه الرؤية مقيدة بمعرفة محدودة ومنظور ضيق وانفعال ذاتي.

الخميس، 3 نوفمبر 2011

نقد بلا حدود: حوار الأصالة والحداثة

                           صوت الجاحظ يتردد في أفق اللسانيات والنقد
                                           د. سيد قطب

    دراسة مقولات القدماء تفيدنا في فهم النظرية المعرفية الآنية، وكثيرا من الآراء الأصيلة تظل تتردد في فضاء الإنسانية محاورة الناتج المعرفي المتجدد.
    الجاحظ من هذه الأصوات التي تمتلك القدرة على الحضور في ساحة الفكر المعاصر والحوار مع النظريات اللسانية والنقدية الجديدة.
    إن رأي الجاحظ في تصنيف البيان إلى خمسة أنواع (اللسان والخط والإشارة والعقد والحال) يلتقي مع مفهوم علم العلامات (السيميولوجيا أو السيميوطيقا) الذي دعا إليه عالم اللغويات فردنادند دو سوسير أو عالم المنطق بيرس، فعلم العلامات يدرس أشكال التواصل الرمزي كافة، بمعنى أن مادته تشمل الأبجديات التعبيرية المتعددة التي يمارسها البشر في التعبير ونقل المعرفة، إنه العلم الذي يعالج أنظمة التعامل الإنساني كلها مثل اللغة المنطوقة والمكتوبة  والتخاطب بالإشارات كذلك إشارت المرور والموسيقى وأنماط الأزياء في ارتباطها بالمواقف ودلالات الألوان وقوانين الألعاب الرياضية التي تنطبق على المشاركين أيا كانت لغاتهم والفنون التشكيلية. ووجه الالتقاء بين نظرية الجاحظ البيانية ونظرية السيميولوجيين تتمثل في تأسيس علم يدرس أشكال البيان الإنساني التي يمارسها البشر ويضعون لها نظاما محددا يتم التعامل به من خلال المواضعة، أي الاتفاق على هذا النظام بوحداته وقواعده بين أفراد المجتمع الإنساني.

    ومصطلح "التبيين" عند الجاحظ يمكن النظر إليه في ضوء نظرية النحو التوليدي التحويلي لتشومسكي إذا وضعنا في الاعتبار أن "التبيين" هو العمليات الذهنية التي يمارسها الفرد وهو يبحث عن الإمكانات اللغوية التي يمكن أن تحتوي أفكاره ومشاعره، باعتبار أن النحو التوليدي قدم للنظرية اللسانية المعاصرة مصطلحين في غاية الأهمية هما "الكفاءة" التي تعني قدرة الفرد على إنتاج اللغة من خلال الرصيد الذي يمتلكه و"الأداء" وهو الناتج اللغوي الفعلي الذي يتم في الممارسة الكلامية. فإذا نظرنا إلى مصطلح "التبيين" سنجد أنه عملية تحويل "الكفاءة" إلى "أداء"، إذ قد يتساوى البشر في الرصيد اللغوي ولكن القدرة على إنتاج الرسائل الفردية تختلف نتيجة المهارة الفردية في استخدام هذا الرصيد. بالتالي تتطلب البلاغة تدريبات بيانية هذه التدريبات ما هي إلا ممارسة عملية التبيين وتطوير نتائجها ليرتفع مؤشر الأداء الفردي.

    ويقدم الجاحظ  للنظرية السردية مقولات مهمة في "وجهة النظر" أو "المنظور" وذلك في رسالته "التربيع والتدوير" التي يتحدث فيها عن اختلاف الرؤية من شخص إلى شخص نتيجة اختلاف موقعه وموقفه وقدرته على قراءة انعكاس العالم في مخيلته ثم انعكاس الإحساس الإنساني على الموضوع الذي يتأمله العقل ثم انعكاس رؤية الإنسان في اللغة أو ما يمكن أن نطلق عليه نظرية "الحبر البراق".

    كذلك ناقش الجاحظ قضية الفصحى والعامية في الإبداع السردي داعيا إلى محاكاة حديث الشخصيات بلهجاتهم داخل السرد  فإذا كان القاص يقدم شخصية ريفية فإنه من الأفضل أن تتحدث هذه الشخصية بصوتها الريفي لأن اللغة عنصرا أساسيا في تصوير الشخصية وإنتاج المعنى.

السبت، 29 أكتوبر 2011

                                 نظرية الانعكاس عند الجاحظ
                           نموذج الحبر البراق

    "الحبر البراق" يستشف الصور التي في نفس الكاتب، يتحول إلى مرآة تنعكس عليها الرؤية، إنه صفحة تشف ما في أعماق الأديب. إن وصف الحبر بالمرآة تعبير رائع لا يصدر إلا عن مبدع عبقري له رؤية فلسفية تنعكس في أعماله الإبداعية والنقدية على حد سواء. ويصف الجاحظ هذا (الحبر/ المداد) بأنه "البراق" أي المتألق اللامع الذي يكاد ينطق بما فيه. وهكذا الإبداع "حبر براق" مرآة شديدة الصفاء تنعكس عليها المرئيات. لكننا لا بد أن نتساءل عن طبيعة هذه المرئيات وأن نحدد مرجعيتها. فالمرآة تعكس صورة لمرجع ما، صورة وليست واقعا ملموسا، لأن الرائي لن يستطيع أبدا أن يمسك بذاك الكائن في أعماق المرآة، ربما يتعرف من خلال الصورة على صاحبها باعتبار أن الصورة "أيقونة" تدل مباشرة على المرجع كما يقول علم العلامات ولكن هذه الدلالة ستظل غير يقينية ولعل هذا المفهوم يطرح نفسه أمامنا الآن في النظرية المعرفية المعاصرة أكثر من أي وقت مضى فمن الممكن "تزوير" الصورة بوضعها في غير سياقها أو قطعها ووصلها بصور أخرى أو "تزييف" المرجع بإحلال مرجع آخر يشبهه مكانه، هذه الأمور كلها سائدة في إنتاج الإعلام المعاصر، بالتالي فإن انعكاس الصور لا يدل بالضرورة على مرجع بعينه، كما أن هذا الانعكاس يتوقف على طبيعة المرآة وموقع المرجع الذي تراه ومسافته وحركة من يمسك بهذه المرآة إذا كانت متحركة أو حركة (الموضوع/ المرئي) منها إن كانت ثابتة.

    إذا كان الوضع التمثيلي لماهية الرؤية هكذا من خلال نموذج "الحبر البراق" هذا النموذج القائم على أربعة عناصر: "المرجع والمرآة وفعل المعالجة والصورة المنعكسة" فكيف الحال بالنسبة لهذا التشبيه في الأدب نفسه؟ بمعنى ما المرئيات التي تنعكس في "الحبر البراق"؟ إن هذا الحبر يصور الأعماق كما هو الحال في الأشعة التي تخترق الحاجز المادي لتصل إلى القلب، الحبر البراق يلتقط الصور الخافية الهلامية التي تجول في المخيلة سواء أكانت هذه المخيلة فردية لأديب بعينه أم جمعية كما هو الحال في الفنون الشعبية، هذه الصور لا تنطبع بتلقائية في "الحبر البراق" وإنما عبر عملية إدراك متعددة المراحل والعناصر.

    مراحل الانعكاس وعناصره :

    حينما يتحدث الجاحظ عن "الحبر البراق" الذي يمتص الصور ويعكسها فإن الباحث عليه أن ينظر إلى هذا التعبير بوصفه نوعا من المجاز فهو كناية تشير إلى البيان البليغ الذي يحمل رؤية ما للعالم، إن المبدع الذي استخلص من داخل مخيلته صورة معينة وصبها في المداد خاض رحلة إدراك متعددة المراحل لأن تكوين الصورة داخل مخيلته أولا يعد ناتجا لعملية انعكاس ثم تقوم تلك الصورة التي تشكلت على صفحة ذهنه للعالم بامتصاص مشاعره وانفعالاته فتنعكس عليها نفسه ثم تحدث عملية معالجة بيانية أو عملية "التبيين" إذا استندنا إلى أحد المفاتيح البلاغية في فكر الجاحظ وفي عملية "التبيين" تصفو الرؤية الإبداعية وتجد لنفسها طريقا في الأفق البياني وتتسلل إلى العالم الزجاجي المصقول، عالم العلامات والرموز، عالم الأبجديات التي اتفق عليها العرف الإنساني لجماعة ما، وحينما تمس رؤية المبدع ذاك الزجاج فإنها تتشكل في كيانه لكنها تقوم بتلوين هذا الكيان من داخله وتطرح صورها في فضائه وربما كانت تلك الرؤية قادرة في بعض الأحيان على تمديد مساحة ذاك الكيان الزجاجي لأنها تمتلك من الطاقة الحرارية ما يسمح لها بصهر مادته وتشكيلها على نحو جديد.

    إن فعل المعالجة الذي يقوم بتحويل المرجع إلى صورة أوعملية الانعكاس نفسها من هذا التصور ثلاثية الأبعاد أو المراحل: فهناك مرحلة انعكاس العالم في الذات ثم مرحلة انعكاس الذات في الصورة المتخيلة للعالم ثم أخيرا مرحلة انعكاس الرؤية الناتجة عن ذاك الجدل أو الاشتباك بين الذات والعالم في الأبجدية البيانية فيتم إنتاج النصوص بالمعنى الشامل للفنون التعبيرية (النص الأدبي/ المدونة الموسيقية/ اللوحة التشكيلية.. الخ). في كل مرحلة من هذه المراحل يحدث انعكاس ما: العالم ينعكس في الذات التي تنعكس بدورها في صورة العالم موضوع التأمل ثم ينعكس ناتج التأمل في النص.

    لابد من ملاحظة أن الشيء (المرجع/ المدرك) له وجود خارج الذات، له حضور في اللحظة، له تاريخ، له ظاهر وأعماق. وأن أداة الاستقبال لها قدرات مادية متفاوتة ومحدودة ومتنوعة. فالصفحات التي تستقبل (حضور الشيء) وتعكس وجوده لها معدنها المتغير، لها درجات من النقاء طبقا للمادة المصنوعة منها. وبينها وبين الجسم المرئي (المرجع/ الموضوع) مسافات تحدد طريقة انعكاسه فيها وحضوره على سطحها. وبالطبع فإن (الصفحة/ المرآة) هنا رمز فالمقصود هو المخيلة الإنسانية. وإذا كانت وسيلة الاستقبال تختلف فتؤثر على الصورة التي تعكسها فإن الأذهان لا تصل إليها رؤية واحدة بل تصل إليها مادة ناقصة ويظل الإنسان يسعى إلى مزيد من الرؤية التي توضح له جماليات عالمه بوصف الجمال سبيلا للمعرفة إن لم يكن معرفة في حد ذاته. والأذهان أيضا تختلف في قوتها ووعيها والخبرات التي تحكم عمليات إنتاجها لصورها على نحو مقيد لا يصل إلى عمق الظواهر، لذلك سنجد بين البشر فروقا في الحكم على الأشياء ناتجة عن تمسكهم بصور ذهنية جامدة تشكلت على صفحات إدراكهم.

الجمعة، 21 أكتوبر 2011

نظرية الانعكاس في النقد العربي


الحبر البراق:

نظرية الانعكاس في النقد العربي

دراسة في "رسالة التربيع والتدوير"

د. س. قطب

        الجاحظ أديب وعالم ومفكرعاش حياته في البصرة ما بين (159 – 255هـ ) أي أنه شارك في الحياة الثقافية لنحو ثلاثة أرباع القرن.. إذا وضعنا في الاعتبار أنه بدأ هذه المشاركة الفعلية بعد مرحلة التأسيس التي شهدت طفولته وصباه ومطلع شبابه.

   عاش الجاحظ أزهى عصور الحضارة العربية وبخاصة زمن هارون الرشيد أكثر الخلفاء العباسيين شهرة. وأبدع في زمن الأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمستعين والمعتز. وظل يقرأ ويكتب حتى آخر لحظة من حياته بعد أن تجاوز تسعين عاما بسنوات حين سقطت فوقه الكتب فلفظ أنفاسه الأخيرة راحلا في صحبة من يحب.

    شارك الجاحظ بعقله وقلمه في رسم خريطة الثقافة العربية وهي تؤسس مكتبتها الإنسانية الكبرى. إنه عصر التأليف والترجمة. عصر الإبداع في الشعر والقصة والرسائل. عصر النهضة العربية في العلوم والفنون. إن الجاحظ من أهم العلامات التي تحفظها الذاكرة الثقافية العربية ويفخر بها الرصيد الفكري الإنساني. ورصيده في مكتبة الآداب العالمية مازال يستثمر في كل لحظة لأن آراءه مازالت تخاطب الأفق الحضاري للإنسان. وهذا هو حال كبار المفكرين.

    عاش الجاحظ مفكرا حرا. يبدع في الآداب والعلوم والفنون. ومن أعماله "كتاب البخلاء" و"كتاب الحيوان" و"كتاب البيان والتبيين" و"المحاسن والأضداد" ورسائل كثيرة من بينها "رسالة التربيع والتدوير".

    نظرية الانعكاس في التربيع والتدوير:

    رسالة التربيع والتدوير بحث في مشكلة الرؤية. فالجاحظ يتساءل فيها عن حقيقة ما يراه الإنسان وعن العلاقة بين الرؤية العينية والرؤية الذهنية وعن قصور حواسنا في كثير من الأحيان وعقولنا في بعض الأحيان. يقول الجاحظ في التربيع والتدوير موجها حديثه إلى المتلقي:

    "وأنا –جعلت فداك- أعلم أني أسمع ولا أعقل كيفية السمع. وأعلم أني أبصر ولا أعقل كيفية البصر. ولا أدري أمعدن العقل الدماغ والقلب بابه وطريقه كما أن معدن اللون جميع النفس والعين بابه وطريقه أم معدن العقل القلب دون الدماغ. أو لعلهما موصولان غير مقطوعين. وقد اعتل قوم للدماغ بأن جميع الحواس في الرأس. واعتل قوم بالجس.. وبما يجدون في قلوبهم من الرعب والاضطراب وغير ذلك."

    إن الجاحظ يتحدث عن ثلاثة مدخلات حسية: السمع والبصر والجس. والسمع مدخل الصوت والبصر مدخل الصورة. هنا يربط الجاحظ بين الصوت والصورة ربطا أساسيا في عملية اكتساب المعرفة لكنه يضيف عنصرا ثالثا هو الجس وما يثيره في النفس من اضطراب، أي أن هناك البعد الثالث الذي يجب إضافته للصوت والصورة، هذا البعد الثالث هو الحركة.

    إن بداية الحصول على المعرفة تتمثل في المدخلات البيانية عن طريق الصوت والصورة ولكن لا بد من الحركة التي تثير في النفس انفعالا فتطلق فيها الرغبة في تحويل الرسالة البيانية التي تلقتها إلى إلى موضوع تأمل يمكن النظر فيه والوصول من خلال النظر إلى نتيجة تسكن إليها النفس المتوترة المنفعلة بالبيان. أي أن الحركة الشعورية هي مفتاح عملية التبيين التفسيري، أي تحليل الوحدات البيانية. وتفسير البيان وتحليله سيؤدي إلى إنتاج وحدة بيانية جديدة من ذهن الذات المنفعلة، أي يتحول المتلقي إلى مرسل.

    وفي أعماقنا يتحول الصوت إلى صورة وتتحول الصورة إلى صوت. فهناك علاقة وثيقة بين السمع والبصر وهناك ربط بين الحاستين تقوم به اللغة. نحن نسمع اللغة ونرى بها أيضا ثم نتأثر حينما تلمس اللغة نفوسنا. هنا يحدث تحول لحاسة اللمس أو فعل الجس، يتحول اللمس الحسي إلى لمس رمزي، لمس لغوي. تجس اللغة إحساس المتلقي وتؤثر في مشاعره فتثير فيه توترا وجدانيا يحرك ذهنه إلى محاولة الفهم والإدراك.

    ويتعرض الجاحظ في رسالة "التربيع والتدوير" لقضية الرؤية ويخصها بالمناقشة فيقول لقارئه:

    "وخبرني عن المرائي وكيف صارت ترى الوجوه ويبصر فيها الخلق. وكذلك كل أملس صقيل وصاف ساكن كالسيف.. والقوارير والماء الراكد. حتى الحبر البراق."

    هذا المقولة التي يضعها الجاحظ مع قارئه (الافتراضي) تطرح قضية الرؤية: ما العلاقة بين الأشياء وصورتها؟ وكيف تنعكس هذه الأشياء على سطح يستقبل صورتها ويحتويها ويحتفظ بها؟ وكيف تستقبل الأذهان عن طريق العيون تلك الصور؟

    ويلاحظ القارئ الكريم أن الجاحظ استحضر مجموعة من (المرائي: الصفحات) التي تستقبل الصورة منها العين والمرآة والسيف والقوارير والماء الراكد والحبر البراق. و"الحبر البراق" هو ما يهمنا في هذه الورقة على وجه التحديد. ويرى الجاحظ أن هذه (المرائي: الصفحات) تتميز بأنها ملساء صقيلة صافية. إن الجاحظ تحدث بذكاء شديد حينما وضع "الحبر" مع هذه (المرائي) فكأنه يشير إلى انعكاس المرئيات التي تسري في نفوسنا على صفحات أوراقنا حين نكتب. وهذه رؤية جميلة وعميقة في نظرية النقد عند الجاحظ.

    إن "الحبر البراق" يمتص الصور التي في نفس الكاتب، يتحول إلى مرآة تنعكس عليها الرؤية، إنه صفحة تشف ما في أعماق الأديب. إن وصف الحبر بالمرآة تعبير رائع لا يصدر إلا عن مبدع عبقري له رؤية فلسفية تشكلت منها نظريته النقدية. ويصف الجاحظ هذا (الحبر/ المداد) بأنه "البراق" أي المتألق اللامع الذي يكاد ينطق بما فيه. وهكذا الإبداع "حبر براق" مرآة شديدة الصفاء تنعكس عليها المرئيات. لكننا لا بد أن نتساءل عن طبيعة هذه المرئيات وأن نحدد مرجعيتها. فالمرآة تعكس صورة لمرجع ما، صورة وليست واقعا ملموسا، لأن الرائي لن يستطيع أبدا أن يمسك بذاك الكائن في أعماق المرآة، ربما يتعرف من خلاله على صاحبه باعتبار أن الصورة "أيقونة" تدل مباشرة على صاحبها، لكن انعكاس الصور لا يدل بالضرورة على مرجع بعينه إذ يتوقف هذا الانعكاس على طبيعة المرآة وموقع المرجع الذي تراه ومسافته وحركة من يمسك بهذه المرآة إذا كانت متحركة أو حركة المرجع (الموصوف/ المرئي) منها إن كانت ثابتة.

    إذا كان الوضع التمثيلي لعملية الإبداع هكذا من خلال نموذج "الحبر البراق" هذا النموذج القائم على ثلاثة أبعاد: "المرآة والصورة والمرجع" فكيف الحال بالنسبة لهذا التشبيه في الأدب نفسه؟ بمعنى ما المرئيات التي تنعكس في "الحبر البراق"؟ إن هذا الحبر يصور الأعماق كما هو الحال في الأشعة التي تخترق الحاجز المادي لتصل إلى القلب، الحبر البراق يلتقط الصور الخافية الهلامية التي تجول في المخيلة سواء أكانت هذه المخيلة فردية لأديب بعينه أم جمعية اجتماعية كما هو الحال في الفنون الشعبية.

الأربعاء، 19 أكتوبر 2011


                                        النقــــد مقال في المصطلح

       
    مصطلح النقد أتى من مادة "نقد", والأصل المادي للفعل (نقد) هو التقاط الطائر للحب من الأرض, وفي هذا المعنى يلتقي الفعل (نقد) مع الفعل (نقر) أو يصبح تطورا له في الدلالة, فالنقر عملية بحث بالمنقار في الأرض يقوم بها الطائر للوصول إلى الحبوب التي يمكن له أن (ينقدها) أي يلتقطها من بين الحصى والتراب, فالنقر بداية اختبارية  لمعرفة طبيعة الأرض التي يسكن فيها ذاك الطائر, إنه حركة في المكان لاكتشاف سماته ودرجة غناه وفقره وكيفية التعايش معه والسكن فيه والحصول على الغذاء منه.

    لا يقف رافد مادة (نقر) في مادة (نقد) عند حد البحث والاختبار للوصول إلى الحبوب وتمييزها, هذا المعنى الذي سيتجه إلى البحث في النصوص وما فيها من جمال بياني مشحون بالقيم الدلالية, ولكن مادة (نقر) تمنحنا صورة تمثيلية لعلاقة المبدع والنقد من خلال لفظ (المناقرة) الذي أصبح دالا على (المنازعة) فمثلما تتنازع الطيور بمناقيرها يتنازع البشر بأفواههم, بكلماتهم, وكأنه يوجد بين النص الإبداعي والنص النقدي نوع من المناقرة والتدافع مثلما يحدث بين الطائرين, والمثل العربي يقول (الطيور على أشكالها تقع).

    بعد قيام الطائر بعملية (النقر) تكون عملية (النقد) التقاط الحبوب بعد تمييزها.

    ولا بد من ملاحظة المشترك الصوتي في المادة المعجمية لأن هذا المشترك يؤسس لتفاعل دلالي بين المواد في المعجم العربي, وفي هذا الصدد سنجد أن مادة (نقد) تلتقي مع (نقر) ومع (نقي) في دلالات البحث والاختبار والاختيار والاكتشاف والتمييز.

   وحينما نستمر في مصاحبة المعجم العربي بحثا عن الروافد التي تستمد منها مادة (نقد) حمولتها الدلالية, وبالتالي تسمح لها هذه الحمولة أن تشكل مجالا تتحرك فيه بقوة كما تتحرك الطاقة المغناطيسية في مدارها, سنجد أن مادة (نقب) تشترك مع مادة (نقد) في دلالة البحث وأن هذا البحث يتعامل مع العناصر المادية التي تعد الأرض أصلا لها ثم يتطور البحث في اتجاه المعاني والأفكار, ومادة (نقب) تمثل مركزا للبحث في الأشياء المادية, فالنقب هو عملية ثقب في الجلد أو الجدار يقوم بها فاعلها لاختبار المادة أو تشكيلها أو البحث فيها, ولنا أن نتصور هنا حركة الطائر بمنقاره وهو (ينقر) الأرض ليعرفها ويختبرها لكي نرى العلاقة بين (نقر ونقب), أما علاقة (نقد ونقب) فهي تقوم على دلالة مشتركة هي البحث أيضا من أجل الوصول إلى شيء جديد نافع, شيء لم نصل إليه بعد لكنه يستدعي حواسنا وأذهاننا لكي نلتقطه, وما أكثر المعاني المحيطة بنا وهي تدعونا لاكتشافها, كما تستدعي الأرض المكتشفين, وكما تستدعي قوانين الطبيعة العلماء لرصدها والإفادة منها.

    تلتقي مادة (نقب) صوتيا ودلاليا مع مادة (نقد) ولكن (نقب) تلتقي أيضا مع (نفق) التي قد يراها البعض بعيدة في مجالها الدلالي عن (نقد) ولكنها قريبة ومتداخلة, ولم يكن بوسعنا معرفة هذه العلاقة إلا برصد علاقة (نقب) مع (نفق) أولا, فأصل النقب ثقب (لاحظ المشاركة الصوتية) يأتي من اختبار المادة, وهذا ما يجعل دلالة (نفق) تأتي أمامنا, فالنفق ثقب في الأرض يمر فيها للوصول من مكان إلى مكان, مثلما هو الحال في عملية (نقب) الجلد أو الجدار.

    ما علاقة (نفق) بمادة (نقد) ودلالاتها؟

    إن من يريد الوصول من نقطة إلى نقطة في قلب الأرض عليه أن يحفر نفقا, أي عليه أن يمهد الأرض من داخلها كي يستطيع العبور فيها, والنقد عبور في النصوص, رحلة في أرض من الأفكار والمعاني, رحلة على الرحالة أن يخوضها في قلب النص, إن الناقد يشق طريقا ذهنيا داخل النصوص, فكأنه يصنع أنفاقا تمهد له السير في عالم متشابك, وهذه الأنفاق التي يسير فيها النقاد ليست سوى مناهجهم المختلفة التي تساعدهم على الرحلة في النص حينا وتعوق بينهم وبين حرية الحركة الروحية والذهنية في أبجدية الجمال أحيانا, ومازالت (أنفاقنا) النقدية محدودة تقيدنا في رحلة المعرفة التي تتطلب تنمية للذوق الجمالي وروح المغامرة.

    في المجال الدلالي للبحث والاكتشاف سنجد أن مادة (نقد) تلتقي أيضا مع مادة (نكت) التي تعني استخراج الأشياء من مكانها لتحديدها ومعرفتها وتمييزها, فالنقد في الآداب والفنون نوع من النكت, نوع من البحث عن الأشياء التي تمنح أشكال البيان خصوصيتها وجمالها.

    إذا نظرنا إلى مادة (نقح) سنجد أنها تصاحب مادة (نقد) في منطقة دلالية شديدة الأهمية هي تلك المنطقة التي تشهد مولد العمل الإبداعي ووضع اللمسات الأخيرة له قبل تقديمه للجمهور, فالتنقيح هو النقد الذاتي, هو تهذيب العمل من جهة صاحبه, إنه عمل ثقافي يحتفي بالآخر ويهتم بذوقه واهتماماته وحاجاته الجمالية والذهنية, والطريف أن مادة (نقح) تلتقي مع مادة (ثقف) في دلالة التهذيب هذه, فالأصل المادي للفعل (ثقف) هو تثقيف الرماح, أي تسويتها, أما الأصل المادي للفعل (نقح) فهو تشذيب العصا أو الجذع, وكل ما نحيت عنه شيئا فقد نقحته كما جاء في لسان العرب, ومن المعاني المادية الطريفة التي تساعدنا على فهم العلاقة بين (نقح) و(نقد) قول العرب (نقح العظم إذا استخرج مخه) و(تنقح شحم الناقة أي قل) فالدلالة المعجمية الأولى لمادة (نقح) تمنح مادة (نقد) ثلاثة روافد دلالية مهمة: الرافد الأول يتعلق بالوصول إلى جوهر الشيء واستخراجه, كما يصل من يأكل إلى المخ الموجود في قلب العظم, والرافد الثاني هو الجمال الشكلي المرئي المحسوس كما هو الحال مع الناقة التي قل شحمها, والرافد الثالث هو تهذيب الشيء وتخليصه من كل زيادة تعلق به وتعوقه عن وظيفته العملية.

    بالطبع أفادت مادة (نقد) كثيرا من مادة (نقح) التي تشترك معها في بعض عناصرها الصوتية, مما يعني أن المشاركة الصوتية تعد مدخلا مهما يضع نفسه أمام الباحث عن المعاني التي تزداد ثراء من خلال المشاركة الدلالية.

    وظلت مادة (نقح) محتفظة لها بمساحة مهمة في عملية إنتاج النصوص الإبداعية فهي فعل الناقد الأول, والناقد الأول هو المبدع ذاته الذي ينقح عمله قبل نشره.

    تلتقي مادة (نقد) مع مواد أخرى مثل (نقض) التي تعني هدم بناء, ويجب أن نلاحظ العلاقة الدلالية بين (البناء) و(البيان) وهي علاقة تصبح مفهومة تماما إذا أخذنا بنظرية ابن جني في الاشتقاق الأكبر, بمعنى أن هناك دلالة تشترك فيها المادة المعجمية الثلاثية مهما اختلف ترتيب أصواتها.

    إن النقد أحيانا يمثل هدما لعمل, لأنه يضرب السلبيات التي تأسس عليها, بل إن النقد إذا نظرنا إليه بوصفه قراءة للعمل من زاوية ما, قد يكون فيه هدم لفكرة العمل أو لمفهومه أو لخصوصيته أو لكثير من معانيه, فالناقد يخرج من العمل بنصه الشخصي تاركا خلفه نص المبدع وقد هدمه ووقف على بعض أنقاضه بعد أن قرأه بوعي أو فرض عليه من عنده رؤية ما, وفي بعض الأحيان يستمد الجمهور رأيه من النقاد دون أن يعود كثير من القراء إلى النص الإبداعي ذاته.

    وتأتي مادة (نقص) لترتبط بهذه الدلالة, فالنقد من جهة نشاط عقلي يضع في اعتباره البحث عن النقائص, ومن جهة أخرى فإن النقد قراءة ناقصة للعمل الإبداعي لأن كل قراءة لنص إبداعي لا يمكن أن تستوعب القيم الجمالية الكلية له.

    أما مادة (ندد) التي منها التنديد فترتبط بالنقض والهدم والنقص وكل هذه المعاني السلبية ولكن هذه المادة تقدم فكرة إيجابية رائعة وهي (الندية) التي تعني أن النص الإبداعي يتطلب ندا له, وكلما كان العقل النقدي ندا لتجليات الوعي الإبداعي ازدادت مساحة المتعة الجمالية بين النقد والإبداع واستمتع القراء بالمنازلة الذهنية التي تحقق لكل ذات حضورها في رحلة الاكتشاف البياني, وهذا المعنى نلتقي فيه مع جوهر نظرية الوسطية لعبد الحميد إبراهيم, فالوسطية التي تمثل الرؤية العربية للعالم في فكره تعني قدرة العقل الجمعي على الاحتفاظ بقوة الطرفين المتقابلين في مساحة متحركة, ولا تعني البحث عن الوسط الذهبي الثابت كما هو الحال في فكر أرسطو, بالتالي فالناقد الحقيقي في معالجتنا هذه لأصل المادة (نقد) يتحرك في مساحة شاسعة بين قمة المنهجية العلمية الملتزمة بالمفاهيم والمقولات والإجراءات من جهة ورحابة الروح الحرة التي تسمح بالتوهج الذهني والشعوري للناقد من جهة أخرى, ولا يوجد ناقد فذ يستطيع أن يتعامل مع النص بمنهجية العالم على حساب تقييد الرؤية الإبداعية التي تفتح له آفاق الإبحار في عالم البيان الحافل بالجمال, ويصبح من الخطأ توهم أن النقد علم خالص, وأن تعليم النقد يعني نقل مجموعة من المعايير الفكرية والإجرائية إلى ذهن القارئ, لأن تكوين الناقد الحقيقي يكون بإطلاق حرية التأمل والقدرة على المغامرة الواعية التي يقتنص فيها الناقد كنوز المعاني من قلب البيان الجميل أو يرصد أشجار البان في الفضاء النصي والمسافات البيانية.   


الثلاثاء، 17 مايو 2011

فن القراءة: النص صوت وصورة

                   النص الأدبي أفق يسري فيه الصوت وتتابع الصور
                                         
    العمل الإبداعي مساحة صوتية مرئية: الصوت فيه هو الأثير الناقل للنبض والصور هي "البان" أو التكوين الجمالي الذي يسطع في مخيلة المتلقي أو فلنقل "المدرك" لأن هناك فرقا بين التلقي والإدراك، فالتلقي قد يكون سلبيا أما الإدراك فهو عملية ذهنية نفسية تعالج ما تتلقاه الحواس.
    أي نص يمكن التعامل معه من خلال ثنائية الصوت والصورة:
    في معالجة الصوت علينا أن نحدد:

-         مرجعية المتكلم في النص:

    الضمير المستخدم: متكلم / مخاطب/ غائب/ مفرد/ جمع/ مذكر/ مؤنث / ذات/ شيء

-         إيقاع الصوت: تعامله مع الزمن في المتوالية اللغوية أو الجملة الإبداعية: التكرار وأشكاله والخروج عليه/ علاقة البناء الصوتي بالوحدات النصية الأكبر: الصيغ الصرفية/ الجملة/ التماسك النصي/ الدلالات الإيحائية للأصوات

-         نبرة الصوت: هادئ/ حاد/ ساخر.........

-         تشخيص الصوت في نموذج: شخصية لها مقومات ورأي

-         الآحادية والتعدد: صوت واحد في النص أو أصوات/ كل صوت منفرد في حيزه أو السياق متشابك/ المونولوج والديالوج/ تقاطع الأصوات في المونولوج/ التناص أو التعدد الصوتي في التشكيل اللغوي للنص وتوظيف الصوت المتكلم للتناص: ذاكرة / استلهام إبداعي في التشكيل/ مع من يقف الصوت/ من يرفض (من الأصوات المحيطة)

-         موقف الصوت: انتماء/ اغتراب/ قبول/ رفض/ نقد/ ترسيخ/ تحذير/ تحريض/ إقبال/ إدبار

-         العلاقات الدرامية الناتجة عن تعدد الأصوات

-         طبيعة الصوت: مؤرخ/ مسجل/ معلق

الصــــــورة:

-         ماذا نرى في الأفق البياني: المرئيات/ النماذج الشخصية/ الأشياء/ الفراغ/ الثبات/ الحركة/ اللقطة أو المشهد وتتابع المشاهد أو تعددها أو تجاورها

-         كيف نرى: موقع الراوي/ زاوية الرؤية أو المنظور أو وجهة النظر

-         علاقة المرئيات: بؤرة الصورة/ الخلفية/ الهامش/ التماسك التصويري: تحديد العلاقات بين عناصر الثورة

-         ألوان الصورة: هادئة / صارخة / محايدة: علاقة اللون بالإضاءة

هذا التصور يمكن الإفادة منه في تحليل أي نص أدبي سواء أكان شعريا أم سرديا أم مسرحيا

    في نص فاروق جويدة: النجم يبحث عن مدار الذي رأينا منه "وجه جميل/ طاف في عيني قليلا واستدار"

    نلاحظ أن الصوت يرى.. الصوت يشاهد/ ثم يعلق في النهاية

    لا نعرف أن الصوت خاص بالمتكلم المفرد إلا من كلمة "عيني" أي من حاسة الرؤية نفسها فهذه الكلمة هي نقطة التقاء الصوت بالصورة، بالتالي فالقصيدة هي قصيدة رؤية

    القصيدة سعي إلى الرؤية.. ولكن هل الرؤية داخلية أو أنها ترصد ما بالخارج؟

    إن الوجه المرئي طاف في العين.. فهو في حاسة البصر.. هو في الداخل.. وهو في حالة حركة سريعة.. وميض من نور جميل

    وجه جميل.. ذاك الموصوف الذي أتى في صيغة النكرة التي تحتمل كثيرا من المعاني المطلقة.. وجه أتمناه وأحبه وأبحث عن ذاتي فيه..

    ثم حركة درامية.. محاولة لإدراك الوجه..

    رؤية وجه (الذات) في الجدار.. رؤية وجه الواقع في فضاء مصمت مغلق

    العالم الجميل الذي نراه في لحظة بأعماقنا.. لحظة حقيقة إدراكية.. والعالم المغلق الذي نرى فيه صورتنا المألوفة

    فاروق جويدة صوت أفلاطوني.. الحقيقة هي التصور الذي يسكننا.. الحقيقة هي مرآة في أغوار أنفسنا نراها في بصيرتنا

    والواقع الذي نعيشه حصار ثابت يعوق حركتنا نحو الحقيقة

    الواقع الذي نعيشه جدار تنعكس عليه صورنا التي لا تضاهي الحقيقة التي نتمناها وتتجلى لنا في لحظة صدق تنير بصيرتنا لنظل في سعي دائم إلى الوجه الجميل المطلق