ثنائية الإبداع والتلقي عند العرب
المفارقة بين الواقع والفن
أدرك مؤرخ الأدب العربي الأصفهاني أن الأدب وليد تجربة شعورية خاصة لا ييمكن أن يتمثلها المتلقي إن لم يكن في حالة قريبة من حال المبدع أو كانت الصورة المقدمة له في العمل الإبداعي تختلف إلى حد كبير عن صورة الموضوع أو المرجع نفسه في الواقع.
الخبر الآتي لشعر عروة بن أذينة في رثاء أخيه بكر حينما أنشده أحد المغنين في قصر الوليد بن يزيد، يقول الراوي: حدّث الزبيري عن خالد صامة، وكان أحد المغنين قال: قدمتُ على الوليد بن يزيد، فدخلت إليه، وهو في مجلس ناهيك به، وهو على سرير، وبين يديه معبد ومالك وابن عائشة وأبو كامل، فجعلوا يغنون حتى بلغتْ النوبة إلىَّ، فغنيته:
سَرى هَمّي وَهَمُّ المَرءِ يَسري | | | ||
| | وَغارَ النَجمُ إِلّا قيسَ فِترِى | ||
أُراقِبُ في المَجَرَّةِ كُلَّ نَجمٍ | | | ||
| | تَعَرَّضَ لِلمَجَرَةِ كَيفَ يَجري | ||
لهَمٍّ لا أَزالُ لَهُ مُديماً | | | ||
| | كَأَنَّ القَلبَ أُسعِرَ حَرَّ جَمرِ | ||
عَلى بَكرٍ أَخي وَلّى حَميداً | | | ||
| | وَأَيُّ العَيشِ يَصفو بَعدَ بَكرِ | ||
فقال لي الوليد: أعد يا صام، ففعلت فقال لي: من يقول هذا الشعر؟ قلت: عروة بن أذينة يرثى أخاه بكرًا. فقال لي: وأيُّ العيش لا يصفو بعده، هذا العيشُ والله الذي نحن فيه على رغم أنفه، والله لقد تحجرَّ واسعًا».
في هذا الخبر يستقبل المتلقي الشعر في ظروف مختلفة تمامًا عن ظروف قوله: فعروة يبكي أخاه في لحظة حزن شديدة يرى فيها أن كل العيش بعد أخيه لا يمكن أن يكون فيه شيء جميل أو متعة صفاء أو سعادة... أما الوليد بن يزيد فيجلس في قصره ومعه مجموعة من أهل الغناء يعيشون في موقف مغاير كل المغايرة لموقف عروة، وبالتالي يرى الوليد أن عروة قد ضيّق على نفسه وأن الدنيا بها ملذات كثيرة ولن تقف عند رحيل بكر..
إن القضية ليست في صفاء الحياة بوجه عام، أو ليست في معنى السعادة من الناحية النظرية المجردة، ولكن القضية في طبيعة الإنسان وسياقه النفسى وعالمه الخاص الذي شَكَّل رؤيته وسلوكه، لذلك قال عروة ما يدل على أن الحياة لن يكون فيها صفاء بعد رحيل أخيه، وهو بالطبع يقصد حياته، لأنه شارك هذا الأخ في أشياء كثيرة ومشاعر خاصة وسلوك يومي، وزمن التكوين الأول الذي جمعهما في الأسرة وطفولة بلا مسئولية، ومراهقة وشباب وأحلام ولحظات لم يعرفها غيرهما، وهذا ما يجعل بالطبع صفو الحياة عن عروة يختلف عن صفوة الحياة عند الوليد بن يزيد.
والخبر الآتي يعرض موقفًا يختلف عن موقف عروة ووجهة نظر تغاير وجهة نظره وهذه المرة من أديبة وناقدة عربية كبيرة لها آراء بليغة في الفكر والأدب والثقافة تحفل بها كتب التراث هي السيدة سُكينة بنت الحسين، وشخصية سُكينة الأدبية تحتاج إلى دراسة موسعة فهي تثبت أن المرأة العربية كانت صاحبة رأي وفكر وأدب وبلاغة تعلّم منها الرجال فنون القول يقول الخبر: «حدثنا الأخفش عن محمد بن يزيد قال: قال الزبيري: حُدِثت أن سكينة بنت الحسين عليه السلام أُنشِدت هذا الشعر فقالت: من بكر هذا؟ أليس هو الأسود الدحداح (القصير) الذي كان يمر بنا؟ قالوا: نعم!، قالت: لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبز والزيت..».
إن نص سكينة من روائع الأدب الساخر، فقد جردّت شخصية بكر من البعد العاطفي الذي أضفاه عليه أخوه عروة، فإذا به شخص عادي لا يمتلك مقومات تغيير صفو الحياة من وجهة نظرها، بل لقد رأت ما هو أبعد من ذلك، وهو أن عدم وجوده لم يغير الدنيا إلى الأسوأ، لقد رحل وظل جمال الحياة باقيًا، بل إن أقل الأشياء مازالت طيبة حتى الخبز والزيت، والطريف أن هذا الرأي لا يخلو من البعد النسائي لناقدة تنظر بعين المرأة للرجال وعناصر الحياة التي تقيم البيت، ويعلن هذا الرأي عن ذات تنظر إلى المستقبل بواقعية وتعرف كيف تطرح نصًا مقابلاً ضاحكًا من نصٍ عاطفي حزين.
إن الخبر الآتي يوضح الحياة الأدبية والنقدية في العصر الأموي ويبين كيف كان الشعراء نقادًا لهم آراء في غاية الخطورة لم تجذب بعد دراسي النقد: «حدثني محمد بن سهل راوية الكميت عن الكميت، قال: لما قدم ذو الرمة أتيتُه فقلتُ له: إني قد قلتُ قصيدةً عارضتُ بها قصيدتك:
ما بال عينك منها الماء ينسكب...
فقال لي: وأي شيء قلت؟ قال: قلتُ:
هل أنت عن طلب الأيفاع منقلبُ
أم هل يُحَسِّن من ذي الشيبة اللعبُ؟
حتى أنشدتُه إياها، فقال لي: ويحك! إنك لتقول قولاً ما يقدر إنسانٌ أن يقول لك أصبتَ ولا أخطأت، وذلك أنك تصِفُ الشيءَ فلا تجيء به، ولا تقعُ بعيدًا منه، بل تقع قريبًا. قلت له: أو تدري لِمَ ذلك؟ قال: لا. قلتُ: لأنك تصف شيئًا رأيتَه بعينك، وأنا أصِفُ شيئًا وُصف لي، وليست المعاينةُ كالوصف. قال: فسكتٌ».
.. عن حماد الراوية، قال: كانت للكُميت جدَّتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعرٍ أو خبرٍ عرضه عليهما فيخبرانه عنه، فمِنْ هناك كان علمه».
فالخبر يوضح كيف يحكم الشاعر على الصورة الشعرية عند زميله، وكيف تكون هذه الصورة أحيانًا غير متطابقة مع الواقع، وفي الوقت نفسه غير بعيدة عنه، فهي أشبه بالجملة الإنشائية التي لا تحتمل الصدق أو الكذب، وهذه سمة فنية مهمة في الإبداع الشعري، أو أن هناك بالفعل نوعين من الشعراء، نوع مثل الفنان الرسام الذي يحاكي الواقع، والنوع الثاني يتخذ من الواقع مادة يرسمها بأسلوبه، أو يستخرج المخزون الذهني له، ويعبر عنه وفقًا لرؤيته الداخلية، وهذا قول خطير يوضح أن النقد العربي القديم كان يفهم معنى التصوير بأكثر من دلالة، فهناك تصوير واقعي يمكن أن نطلق على أصحابه لفظ الواقعيين، وهناك تصوير آخر يستدعي الواقع ولا يحاكيه ويمكن أن نطلق على أصحابه لفظ الإيحائيين أو لفظ الانطباعيين أو لفظ التأثيريين، وبالطبع لم يستخدم العربي القديم هذه الألفاظ، ولكنه كان يفهم الدلالات والمعاني النقدية من خلال الفهم الواعي للإبداع الشعري.
التماهي الدرامي:
لا شك أن الدراما مؤثرة في حياة الناس، وكان شعر عمر بن أبي ربيعة شعرًا دراميًا فيه العناصر التي تحقق المفهوم الدرامي في النص: فيه الشخصيات الأساسية المحورية والشخصيات الثانوية: البطل والبطلة، والرقباء، والذي يساعد البطل والذي يعارضه وأهل الحي وصديقات البطلة الملهمة وأصدقاء البطل المغامر وتطور الأحداث والنهاية السعيدة حين يقابل البطل ملهمته، وينشد أشعاره بعد هذا اللقاء، فمعظم قصائد عمر فيها هذه العناصر الدرامية لأنها تصور مغامرة عن طريق الحكاية التي تصاحب القصيدة.
وحينما نقول التماهي الدرامي فنحن نقصد أن المتلقي يعايش التجربة مع أبطالها فيتحد ببعض شخصياتها أو يتمنى أن يجد لنفسه دورًا فيها، والأكثر طرافة من ذلك أن هذا المتلقي قد يقوم بدور في الحياة يحقق من خلاله دعوة العمل الدرامي فيستمع إلى النص ويستجيب لما فيه، وهو سعيد بذلك.
في بعض الأفلام الأجنبية على سبيل المثال يأتي رجل الغابة إلى المدينة فيشاهد التلفاز ويرى مذيع النشرة الجوية، وهو يقول: إن الجو صحو، لذلك عليك أيها المشاهد الكريم أن تخرج وتستمتع بالحياة، فيبتسم البطل للمذيع ويهز رأسه ويندفع خارجًا للاستمتاع بالحياة، وهذا ما نجده مع شعر عمر بن أبي ربيعة في الخبر الآتي: «لما بلغ ابن أبي عتيق قولُه:
مَن رَسولي إِلى الثُرَيّا فإني | | | ||
| | ضِقتُ ذَرعاً بِهَجرِها وَالكِتابِ | ||
قال: إياي أراد، وبي نَوَّه، لا جَرَمَ لا أذوق أكلاً حتى أشخص فأصلح بينهما. قال بلال، مولي ابن أبي عتيق: فنهض ونهضتُ معه...».
إن ابن أبي عتيق في هذا الخبر يقوم بمهمة المساعد الذي يستمع إلى شكوى البطل فيقرر أن يقف بجانبه، وبالطبع هذا خبر قصصي أي أننا أمام نص أدبي آخر غير الشعر، نص قصصي يأتي فيه الشعر داخل القصة، وتحكي القصة عن موقف فيه أزمة وبطل مأزوم وشخص يساعده لتحقيق ما يريد، وهذه الأخبار القصصية تنتشر انتشارًا كبيرًا في كتب الأدب العربي، وتعد ثروة أدبية تصور الحياة الثقافية والاجتماعية في بعض جوانبها، ولكنها أيضًا تقدم مادة درامية غزيرة في الكم والكيف للمبدع المعاصر كي يستلهمها ويحولها إلى دراما تاريخية متعددة الاتجاهات فمنها ما يصور الحياة العاطفية ومنها ما يعرض لحياة القصور والأمراء أو الفقهاء والعلماء أو الفتوحات والحروب، والذي يشاهد الدراما التليفزيونية اليوم المصرية منها والسورية يعرف أن كتاب الدراما التاريخية قد أفادوا إفادة كبيرة من الأخبار القصصية العربية.
وفي موضوع التماهي الدرامي هذا نعلق على الرؤية العربية للمساعد في قصص الحب كما يتمثل هذا المساعد هنا في شخصية ابن أبي عتيق، إن العقل العربي يحترم الشعر، والعاطفة والإلهام، وحينما يساعد ابن أبي عتيق صديقه عمر بن أبي ربيعة بحل الخلاف الذي جعل «الثريا» تهجره، فإنه إنما يفعل ذلك من باب الكرم النفسي الذي يساند المبدع العاشق، فالحبيبة هنا ليست شخصية اجتماعية بقدر ما هي مصدر الإلهام، وعمر هو القرشي الذي يتفوق على شعراء القبائل الأخرى، ويحقق لأهله مكانة في التاريخ الأدبي، ويجعل العواطف الإنسانية متجهة إلى صوته وقبيلته ولغته الجميلة، ولهذا فهو يستحق أن يجد حوله المساعد الذي يخفف عنه ألمه ويصالح بينه وبين ملهمته، وبالطبع يمكن أن يكون الخبر صادقًا أو كاذبًا، لأن الخبر القصصي لا يُقدَّم بوصفه تاريخًا موثقًا، وإنما يتم تناوله بوصفه يجمع بين الواقع والحلم أو الحادثة التاريخية والوهم الشعبي الذي يريد أن يتصورها على نحو ما، وهذا يعني أن المؤرخ يجب أن يحتاط حينما يتعامل مع الأخبار القصصية فيقوم بمراجعتها من ناحية السند والمتن ليتأكد من صحتها، أما الأديب الناقد فهو يتعامل معها تعاملاً آخر إذ يجد فيها الملامح الثقافية التي تعكس الحياة وتوضح طرائق التفكير والتعبير وتصور السمات الاجتماعية العامة للبشر والطبائع النفسية للمجتمعات، وفي مكتبتنا التراثية مادة ضخمة من الأخبار القصصية في كتب مثل الأغاني للأصفهاني والكامل للمبرد، والبخلاء للجاحظ، وكل هذه الأخبار تطرح مادتها أمام المؤرخ والأديب والناقد، وكل واحد من هؤلاء يتعامل معها بمنهجه ووفق اهتماماته وفي مجال تخصصه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق