نظرية الانعكاس عند الجاحظ
نموذج الحبر البراق
نموذج الحبر البراق
"الحبر البراق" يستشف الصور التي في نفس الكاتب، يتحول إلى مرآة تنعكس عليها الرؤية، إنه صفحة تشف ما في أعماق الأديب. إن وصف الحبر بالمرآة تعبير رائع لا يصدر إلا عن مبدع عبقري له رؤية فلسفية تنعكس في أعماله الإبداعية والنقدية على حد سواء. ويصف الجاحظ هذا (الحبر/ المداد) بأنه "البراق" أي المتألق اللامع الذي يكاد ينطق بما فيه. وهكذا الإبداع "حبر براق" مرآة شديدة الصفاء تنعكس عليها المرئيات. لكننا لا بد أن نتساءل عن طبيعة هذه المرئيات وأن نحدد مرجعيتها. فالمرآة تعكس صورة لمرجع ما، صورة وليست واقعا ملموسا، لأن الرائي لن يستطيع أبدا أن يمسك بذاك الكائن في أعماق المرآة، ربما يتعرف من خلال الصورة على صاحبها باعتبار أن الصورة "أيقونة" تدل مباشرة على المرجع كما يقول علم العلامات ولكن هذه الدلالة ستظل غير يقينية ولعل هذا المفهوم يطرح نفسه أمامنا الآن في النظرية المعرفية المعاصرة أكثر من أي وقت مضى فمن الممكن "تزوير" الصورة بوضعها في غير سياقها أو قطعها ووصلها بصور أخرى أو "تزييف" المرجع بإحلال مرجع آخر يشبهه مكانه، هذه الأمور كلها سائدة في إنتاج الإعلام المعاصر، بالتالي فإن انعكاس الصور لا يدل بالضرورة على مرجع بعينه، كما أن هذا الانعكاس يتوقف على طبيعة المرآة وموقع المرجع الذي تراه ومسافته وحركة من يمسك بهذه المرآة إذا كانت متحركة أو حركة (الموضوع/ المرئي) منها إن كانت ثابتة.
إذا كان الوضع التمثيلي لماهية الرؤية هكذا من خلال نموذج "الحبر البراق" هذا النموذج القائم على أربعة عناصر: "المرجع والمرآة وفعل المعالجة والصورة المنعكسة" فكيف الحال بالنسبة لهذا التشبيه في الأدب نفسه؟ بمعنى ما المرئيات التي تنعكس في "الحبر البراق"؟ إن هذا الحبر يصور الأعماق كما هو الحال في الأشعة التي تخترق الحاجز المادي لتصل إلى القلب، الحبر البراق يلتقط الصور الخافية الهلامية التي تجول في المخيلة سواء أكانت هذه المخيلة فردية لأديب بعينه أم جمعية كما هو الحال في الفنون الشعبية، هذه الصور لا تنطبع بتلقائية في "الحبر البراق" وإنما عبر عملية إدراك متعددة المراحل والعناصر.
مراحل الانعكاس وعناصره :
حينما يتحدث الجاحظ عن "الحبر البراق" الذي يمتص الصور ويعكسها فإن الباحث عليه أن ينظر إلى هذا التعبير بوصفه نوعا من المجاز فهو كناية تشير إلى البيان البليغ الذي يحمل رؤية ما للعالم، إن المبدع الذي استخلص من داخل مخيلته صورة معينة وصبها في المداد خاض رحلة إدراك متعددة المراحل لأن تكوين الصورة داخل مخيلته أولا يعد ناتجا لعملية انعكاس ثم تقوم تلك الصورة التي تشكلت على صفحة ذهنه للعالم بامتصاص مشاعره وانفعالاته فتنعكس عليها نفسه ثم تحدث عملية معالجة بيانية أو عملية "التبيين" إذا استندنا إلى أحد المفاتيح البلاغية في فكر الجاحظ وفي عملية "التبيين" تصفو الرؤية الإبداعية وتجد لنفسها طريقا في الأفق البياني وتتسلل إلى العالم الزجاجي المصقول، عالم العلامات والرموز، عالم الأبجديات التي اتفق عليها العرف الإنساني لجماعة ما، وحينما تمس رؤية المبدع ذاك الزجاج فإنها تتشكل في كيانه لكنها تقوم بتلوين هذا الكيان من داخله وتطرح صورها في فضائه وربما كانت تلك الرؤية قادرة في بعض الأحيان على تمديد مساحة ذاك الكيان الزجاجي لأنها تمتلك من الطاقة الحرارية ما يسمح لها بصهر مادته وتشكيلها على نحو جديد.
إن فعل المعالجة الذي يقوم بتحويل المرجع إلى صورة أوعملية الانعكاس نفسها من هذا التصور ثلاثية الأبعاد أو المراحل: فهناك مرحلة انعكاس العالم في الذات ثم مرحلة انعكاس الذات في الصورة المتخيلة للعالم ثم أخيرا مرحلة انعكاس الرؤية الناتجة عن ذاك الجدل أو الاشتباك بين الذات والعالم في الأبجدية البيانية فيتم إنتاج النصوص بالمعنى الشامل للفنون التعبيرية (النص الأدبي/ المدونة الموسيقية/ اللوحة التشكيلية.. الخ). في كل مرحلة من هذه المراحل يحدث انعكاس ما: العالم ينعكس في الذات التي تنعكس بدورها في صورة العالم موضوع التأمل ثم ينعكس ناتج التأمل في النص.
لابد من ملاحظة أن الشيء (المرجع/ المدرك) له وجود خارج الذات، له حضور في اللحظة، له تاريخ، له ظاهر وأعماق. وأن أداة الاستقبال لها قدرات مادية متفاوتة ومحدودة ومتنوعة. فالصفحات التي تستقبل (حضور الشيء) وتعكس وجوده لها معدنها المتغير، لها درجات من النقاء طبقا للمادة المصنوعة منها. وبينها وبين الجسم المرئي (المرجع/ الموضوع) مسافات تحدد طريقة انعكاسه فيها وحضوره على سطحها. وبالطبع فإن (الصفحة/ المرآة) هنا رمز فالمقصود هو المخيلة الإنسانية. وإذا كانت وسيلة الاستقبال تختلف فتؤثر على الصورة التي تعكسها فإن الأذهان لا تصل إليها رؤية واحدة بل تصل إليها مادة ناقصة ويظل الإنسان يسعى إلى مزيد من الرؤية التي توضح له جماليات عالمه بوصف الجمال سبيلا للمعرفة إن لم يكن معرفة في حد ذاته. والأذهان أيضا تختلف في قوتها ووعيها والخبرات التي تحكم عمليات إنتاجها لصورها على نحو مقيد لا يصل إلى عمق الظواهر، لذلك سنجد بين البشر فروقا في الحكم على الأشياء ناتجة عن تمسكهم بصور ذهنية جامدة تشكلت على صفحات إدراكهم.