الأربعاء، 19 أكتوبر 2011


                                        النقــــد مقال في المصطلح

       
    مصطلح النقد أتى من مادة "نقد", والأصل المادي للفعل (نقد) هو التقاط الطائر للحب من الأرض, وفي هذا المعنى يلتقي الفعل (نقد) مع الفعل (نقر) أو يصبح تطورا له في الدلالة, فالنقر عملية بحث بالمنقار في الأرض يقوم بها الطائر للوصول إلى الحبوب التي يمكن له أن (ينقدها) أي يلتقطها من بين الحصى والتراب, فالنقر بداية اختبارية  لمعرفة طبيعة الأرض التي يسكن فيها ذاك الطائر, إنه حركة في المكان لاكتشاف سماته ودرجة غناه وفقره وكيفية التعايش معه والسكن فيه والحصول على الغذاء منه.

    لا يقف رافد مادة (نقر) في مادة (نقد) عند حد البحث والاختبار للوصول إلى الحبوب وتمييزها, هذا المعنى الذي سيتجه إلى البحث في النصوص وما فيها من جمال بياني مشحون بالقيم الدلالية, ولكن مادة (نقر) تمنحنا صورة تمثيلية لعلاقة المبدع والنقد من خلال لفظ (المناقرة) الذي أصبح دالا على (المنازعة) فمثلما تتنازع الطيور بمناقيرها يتنازع البشر بأفواههم, بكلماتهم, وكأنه يوجد بين النص الإبداعي والنص النقدي نوع من المناقرة والتدافع مثلما يحدث بين الطائرين, والمثل العربي يقول (الطيور على أشكالها تقع).

    بعد قيام الطائر بعملية (النقر) تكون عملية (النقد) التقاط الحبوب بعد تمييزها.

    ولا بد من ملاحظة المشترك الصوتي في المادة المعجمية لأن هذا المشترك يؤسس لتفاعل دلالي بين المواد في المعجم العربي, وفي هذا الصدد سنجد أن مادة (نقد) تلتقي مع (نقر) ومع (نقي) في دلالات البحث والاختبار والاختيار والاكتشاف والتمييز.

   وحينما نستمر في مصاحبة المعجم العربي بحثا عن الروافد التي تستمد منها مادة (نقد) حمولتها الدلالية, وبالتالي تسمح لها هذه الحمولة أن تشكل مجالا تتحرك فيه بقوة كما تتحرك الطاقة المغناطيسية في مدارها, سنجد أن مادة (نقب) تشترك مع مادة (نقد) في دلالة البحث وأن هذا البحث يتعامل مع العناصر المادية التي تعد الأرض أصلا لها ثم يتطور البحث في اتجاه المعاني والأفكار, ومادة (نقب) تمثل مركزا للبحث في الأشياء المادية, فالنقب هو عملية ثقب في الجلد أو الجدار يقوم بها فاعلها لاختبار المادة أو تشكيلها أو البحث فيها, ولنا أن نتصور هنا حركة الطائر بمنقاره وهو (ينقر) الأرض ليعرفها ويختبرها لكي نرى العلاقة بين (نقر ونقب), أما علاقة (نقد ونقب) فهي تقوم على دلالة مشتركة هي البحث أيضا من أجل الوصول إلى شيء جديد نافع, شيء لم نصل إليه بعد لكنه يستدعي حواسنا وأذهاننا لكي نلتقطه, وما أكثر المعاني المحيطة بنا وهي تدعونا لاكتشافها, كما تستدعي الأرض المكتشفين, وكما تستدعي قوانين الطبيعة العلماء لرصدها والإفادة منها.

    تلتقي مادة (نقب) صوتيا ودلاليا مع مادة (نقد) ولكن (نقب) تلتقي أيضا مع (نفق) التي قد يراها البعض بعيدة في مجالها الدلالي عن (نقد) ولكنها قريبة ومتداخلة, ولم يكن بوسعنا معرفة هذه العلاقة إلا برصد علاقة (نقب) مع (نفق) أولا, فأصل النقب ثقب (لاحظ المشاركة الصوتية) يأتي من اختبار المادة, وهذا ما يجعل دلالة (نفق) تأتي أمامنا, فالنفق ثقب في الأرض يمر فيها للوصول من مكان إلى مكان, مثلما هو الحال في عملية (نقب) الجلد أو الجدار.

    ما علاقة (نفق) بمادة (نقد) ودلالاتها؟

    إن من يريد الوصول من نقطة إلى نقطة في قلب الأرض عليه أن يحفر نفقا, أي عليه أن يمهد الأرض من داخلها كي يستطيع العبور فيها, والنقد عبور في النصوص, رحلة في أرض من الأفكار والمعاني, رحلة على الرحالة أن يخوضها في قلب النص, إن الناقد يشق طريقا ذهنيا داخل النصوص, فكأنه يصنع أنفاقا تمهد له السير في عالم متشابك, وهذه الأنفاق التي يسير فيها النقاد ليست سوى مناهجهم المختلفة التي تساعدهم على الرحلة في النص حينا وتعوق بينهم وبين حرية الحركة الروحية والذهنية في أبجدية الجمال أحيانا, ومازالت (أنفاقنا) النقدية محدودة تقيدنا في رحلة المعرفة التي تتطلب تنمية للذوق الجمالي وروح المغامرة.

    في المجال الدلالي للبحث والاكتشاف سنجد أن مادة (نقد) تلتقي أيضا مع مادة (نكت) التي تعني استخراج الأشياء من مكانها لتحديدها ومعرفتها وتمييزها, فالنقد في الآداب والفنون نوع من النكت, نوع من البحث عن الأشياء التي تمنح أشكال البيان خصوصيتها وجمالها.

    إذا نظرنا إلى مادة (نقح) سنجد أنها تصاحب مادة (نقد) في منطقة دلالية شديدة الأهمية هي تلك المنطقة التي تشهد مولد العمل الإبداعي ووضع اللمسات الأخيرة له قبل تقديمه للجمهور, فالتنقيح هو النقد الذاتي, هو تهذيب العمل من جهة صاحبه, إنه عمل ثقافي يحتفي بالآخر ويهتم بذوقه واهتماماته وحاجاته الجمالية والذهنية, والطريف أن مادة (نقح) تلتقي مع مادة (ثقف) في دلالة التهذيب هذه, فالأصل المادي للفعل (ثقف) هو تثقيف الرماح, أي تسويتها, أما الأصل المادي للفعل (نقح) فهو تشذيب العصا أو الجذع, وكل ما نحيت عنه شيئا فقد نقحته كما جاء في لسان العرب, ومن المعاني المادية الطريفة التي تساعدنا على فهم العلاقة بين (نقح) و(نقد) قول العرب (نقح العظم إذا استخرج مخه) و(تنقح شحم الناقة أي قل) فالدلالة المعجمية الأولى لمادة (نقح) تمنح مادة (نقد) ثلاثة روافد دلالية مهمة: الرافد الأول يتعلق بالوصول إلى جوهر الشيء واستخراجه, كما يصل من يأكل إلى المخ الموجود في قلب العظم, والرافد الثاني هو الجمال الشكلي المرئي المحسوس كما هو الحال مع الناقة التي قل شحمها, والرافد الثالث هو تهذيب الشيء وتخليصه من كل زيادة تعلق به وتعوقه عن وظيفته العملية.

    بالطبع أفادت مادة (نقد) كثيرا من مادة (نقح) التي تشترك معها في بعض عناصرها الصوتية, مما يعني أن المشاركة الصوتية تعد مدخلا مهما يضع نفسه أمام الباحث عن المعاني التي تزداد ثراء من خلال المشاركة الدلالية.

    وظلت مادة (نقح) محتفظة لها بمساحة مهمة في عملية إنتاج النصوص الإبداعية فهي فعل الناقد الأول, والناقد الأول هو المبدع ذاته الذي ينقح عمله قبل نشره.

    تلتقي مادة (نقد) مع مواد أخرى مثل (نقض) التي تعني هدم بناء, ويجب أن نلاحظ العلاقة الدلالية بين (البناء) و(البيان) وهي علاقة تصبح مفهومة تماما إذا أخذنا بنظرية ابن جني في الاشتقاق الأكبر, بمعنى أن هناك دلالة تشترك فيها المادة المعجمية الثلاثية مهما اختلف ترتيب أصواتها.

    إن النقد أحيانا يمثل هدما لعمل, لأنه يضرب السلبيات التي تأسس عليها, بل إن النقد إذا نظرنا إليه بوصفه قراءة للعمل من زاوية ما, قد يكون فيه هدم لفكرة العمل أو لمفهومه أو لخصوصيته أو لكثير من معانيه, فالناقد يخرج من العمل بنصه الشخصي تاركا خلفه نص المبدع وقد هدمه ووقف على بعض أنقاضه بعد أن قرأه بوعي أو فرض عليه من عنده رؤية ما, وفي بعض الأحيان يستمد الجمهور رأيه من النقاد دون أن يعود كثير من القراء إلى النص الإبداعي ذاته.

    وتأتي مادة (نقص) لترتبط بهذه الدلالة, فالنقد من جهة نشاط عقلي يضع في اعتباره البحث عن النقائص, ومن جهة أخرى فإن النقد قراءة ناقصة للعمل الإبداعي لأن كل قراءة لنص إبداعي لا يمكن أن تستوعب القيم الجمالية الكلية له.

    أما مادة (ندد) التي منها التنديد فترتبط بالنقض والهدم والنقص وكل هذه المعاني السلبية ولكن هذه المادة تقدم فكرة إيجابية رائعة وهي (الندية) التي تعني أن النص الإبداعي يتطلب ندا له, وكلما كان العقل النقدي ندا لتجليات الوعي الإبداعي ازدادت مساحة المتعة الجمالية بين النقد والإبداع واستمتع القراء بالمنازلة الذهنية التي تحقق لكل ذات حضورها في رحلة الاكتشاف البياني, وهذا المعنى نلتقي فيه مع جوهر نظرية الوسطية لعبد الحميد إبراهيم, فالوسطية التي تمثل الرؤية العربية للعالم في فكره تعني قدرة العقل الجمعي على الاحتفاظ بقوة الطرفين المتقابلين في مساحة متحركة, ولا تعني البحث عن الوسط الذهبي الثابت كما هو الحال في فكر أرسطو, بالتالي فالناقد الحقيقي في معالجتنا هذه لأصل المادة (نقد) يتحرك في مساحة شاسعة بين قمة المنهجية العلمية الملتزمة بالمفاهيم والمقولات والإجراءات من جهة ورحابة الروح الحرة التي تسمح بالتوهج الذهني والشعوري للناقد من جهة أخرى, ولا يوجد ناقد فذ يستطيع أن يتعامل مع النص بمنهجية العالم على حساب تقييد الرؤية الإبداعية التي تفتح له آفاق الإبحار في عالم البيان الحافل بالجمال, ويصبح من الخطأ توهم أن النقد علم خالص, وأن تعليم النقد يعني نقل مجموعة من المعايير الفكرية والإجرائية إلى ذهن القارئ, لأن تكوين الناقد الحقيقي يكون بإطلاق حرية التأمل والقدرة على المغامرة الواعية التي يقتنص فيها الناقد كنوز المعاني من قلب البيان الجميل أو يرصد أشجار البان في الفضاء النصي والمسافات البيانية.   


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق