الخميس، 5 مايو 2011

أيام النوافذ الزرقاء للروائي عادل عصمت


    مقطع وقراءة من رواية أيام النوافذ الزرقاء للأديب المصري عادل عصمت:
    "أصابتني أول أزمة قلبية. استشرت طبيبا من أصدقائي. قال: "الأمر بسيط، تراكم كولسترول في بعض الأوردة." ولما رآني مهموما قال جادا: "الأمر في بدايته، لا تقلق، انقص وزنك ومارس أي نوع من الرياضة... والأهم غيَر الجو.." قلت: "أفكر في الإسكندرية." قال باسما: "لا تنزل مصر.. زحمة وقرف." قلت: ماذا تقترح؟" قال: "اليونان أو تركيا بلاد جميلة." ثم قال مبتسما: "أعرف أنك من الأثرياء.. اذهب إلى اسبانيا." ثم سأل دون سبب: "لم تنزل مصر من مدة؟" قلت بعد صمت خجل: "خمس عشرة سنة." لم يلاحظ الصمت ولا الرعشة الخافتة فقال مبتسما: "تغيرت تماما، لن تعرفها." سألت مندهشا قبل أن أغادر العيادة: "يعني الأمر بسيط فعلا..؟" "سافر ومارس الرياضة.. ستنتهي المشاكل." أعطاني الفحص الطبي مبررا لكي أحاول جادا إيقاف تعلقي بالأحلام التي بدأت تخيفني بكثافتها وثقلها وواقعيتها. واجتهدت أن أجبر نفسي على التفكير بأنه آن الآوان أن أنزل إلى مدينتي وأزور خالي "محمود". كنت أقود سيارتي في الليل عائدا إلى بيتي، لمحت طيفا يعبر أمامي، قلت إنه إرهاق. رددت كلمة "إرهاق" عدة مرات خائفا لأن الطيف الشاحب الذي ظننت أنه تشكَل من انعكاس أضواء السيارات المتقابلة كان يشبه طيف جدتي وعندما نمت في تلك الليلة حلمت بها تطير في الفضاء بجلباب منزلي أبيض. كان الجو عاصفا، الهواء يزوم ويصفق النوافذ، شعرت ببرودة ثقيلة ثم هطل المطر غزيرا. سمعت نقرا على زجاج النوافذ. انقبض قلبي وقمت من فراشي. فتحت باب غرفة الجلوس. كان النقر صاخبا، اقتربت من النافذة، كانت بلورات الثلج تتراكم على السياج ولما دققت النظر رأيت شظايا زجاج أزرق." –عادل عصمت: أيام النوافذ الزرقاء – القاهرة –دار شرقيات – ط 1- 2009- ص125-127
    تصل رواية عادل عصمت بين زمنين (الآن/ النكسة) فما تعيشه مصر قبيل الثورة كان أشبه ما يكون بهزيمة نالت كل جوانب الحياة، انفصل جيل الوسط عما يحدث مضطرا للعمل في الخليج بعد أن سقط النظام معنويا في الداخل وحدث تفريغ لقيم العمل وتكافؤ الفرص والجدية ولم يعد سوى الحل الفردي لكل فئة ثم كل أسرة ثم كل فرد، إن هذا التشتت كان هزيمة حضارية بكل المقاييس، فإذا أضفنا إليه التعتيم الإعلامي الذي أدارت به المؤسة الحكومية قبل 25 يناير أمور البلاد في زمن لم يعد بيد السلطة أن تنتهك حق الناس في المعرفة، سنجد أن العنوان الذي اختاره عادل عصمت للرواية كان دقيقا وموحيا ومرتبطا بالمضمون الروائي في هذه اللحظة الآنية وليس فقط مجرد استحضار لتجربة تاريخية سابقة في نهاية الستينيات، إن المصري الذي عاصر حروبا قاسية متحملا أصعب الظروف كي تستعيد بلاده كرامتها بعد النكسة لم يستطع أن يتحمل ما بعد الانفتاح ثم ما بعد تكريس الحلول الفردية منذ عام 1977 وإذا كان هناك من يخجل لأنه لم ير بلاده منذ خمسة عشر عاما وهو المريض الذي سد "الكوليسترول" شرايينه فأصيب بأزمة قلبية فإن الطبيب لم يتوقف كثيرا عند هذا الانصراف الذي فصل الإنسان عن الوطن لأنه يرى جسد مصر المتعب وشرايينها المصابة ومن خلال المفارقة يتحول مرض المصري الذي لم يعد قلبه قادرا على بث الدماء في جسده إلى أزمة بلد كامل في نوع من المجاز المرسل النصي، أي دلالة الجزء على الكل، وتأتي النهاية المنذرة بهزيمة أكثر ألما من النكسة التي لم ينكسر زجاج النوافذ الأزرق أيامها لكنه انكسر في كابوس المغترب الذي يجد خلاصه في الاستئناس بالراحلين في إشارة إلى النهاية المعنوية لجيل وصلت تجربته الفردية إلى طريق مسدود وتناثرت أيامه شظايا زرقاء في دورة زمنية تصل الطفولة الستينية بالكهولة الآنية، بالتالي لم تكن العودة إلى الماضي نوعا من حنين المغترب إلى مدينته الدلتاوية ولا استلهاما للحظة انتصار قديمة يقتبس منها شعلة حياة ولا وعيا ذهنيا يصل الماضي بالحاضر لكي يسير التاريخ في مساره الخطي نحو التطور ولا هروبا من اغتراب نفسي نتيجة تغير معطيات الحضارة وإنما كانت العودة إلى زمن النوافذ الزرقاء، زمن ما بعد النكسة استشرافا حدسيا لنهاية النظام القائم في مصر، مع الوضع في الاعتبار أن هذه البنية الدائرية تعلن بذكاء أن السياق الذي عاش فيه هذا الجيل لم يستطع أن يخرج بمصر من المأزق الذي عشناه جميعا من منتصف الستينيات، مأزق التسلط والطغيان وفقدان الشفافية والعماء الروحي المفروض على مجتمع حاول نظامه أن يحجب الرؤية والصوت ظنا منه أن بقاءه مرهون بالصمت والظلام، إن العمل الفني يخاطبنا بأبجدية الصوت والصورة، والصوت الذي نسمعه عند عادل عصمت هو الانكسار الذي يطيح بالعمر والأحلام والمكاسب المادية التي كرسَت لها سنوات الغربة اهتمامات الجيل الذي عاصر في طفولته قضايا وطنية كبرى وانكسر في منفاه الاختياري أما الصورة التي نراها في الأفق أمام المخيلة لتضع معانيها أمام البصيرة الناقدة فهي الفضاء الأزرق الذي تغيب فيه الملامح الحقيقية للأشياء فلا نرى إلا أشباح العالم أمامنا لأن الحقائق تظل غائبة في ظلام فرضه الظالمون قبل أن يسقط نظام التعتيم في هاوية العدم.    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق