في رأينا أن "البانة" يمكن أن تكون كل نص جميل يعبر به الإنسان عن نفسه فيعلن عن وجوده ويحرر نفسه من الصمت ويضع صورته أمام العالم ويسري صوته في الفضاء والنص الجميل سمو وارتقاء يظهر في أفق التواصل من بذرة روحية في أعماق الإنسان.
ونبدأ من "لسان العرب" بتحديد الأصل المادي للفظ "بانة" ثم نأخذ منه الروافد الدلالية التي تسمح لنا بهذا التأويل:
"البان شجر يسمو ويطول في استواء.. واحدته بانة له هدب طوال وينبت في الهضب وثمرته تشبه قرون اللوبياء إلا أن خضرتها شديدة.. ولاستواء نباتها ونبات أفنانها وطولها ونعمتها شبه الشعراء الجارية الناعمة بها فقيل كأنها بانة وكأنها غصن بان". هكذا تحدث معجم "لسان العرب" لابن منظور.
إن نبات البان المستوي الأخضر الجميل ينمو في الهضاب, إنه علامات الحياة بكل ما فيها من سمو وجمال, الصحراء تنطق أو الفضاء الصحراوي يبين عن نفسه وعما يختزنه في أعماقه بشجر البان, في هذه المساحات الصفراء الشاسعة يظهر البان على المرتفعات فتراه عين المتأمل.
إن الصحراء تمارس العملية البيانية, كل فضاء بداخله شيء يمكن طرحه, وتحت الصمت والسكون بذور تسعى للانطلاق والسمو والارتفاع كما يعلو النبات من بذرة في باطن الأرض, أي في قلب الفضاء, إن العملية البيانية هنا تتحول إلى مفهوم شامل يدركه العقل الإنساني حين يتعلم من الكتاب الكوني, لذلك كان الإنسان مطالبا بالسير والنظر في المكان الذي يستوعبه وفي نفسه التي يرى فيها مساحات من الغموض والثراء والحيوية مثلما يرى في عالمه الخارجي, ومن هذا الإدراك لرؤية المكان يأتي مفهوم العالم النفسي أو العالم الداخلي, فالإنسان يدرك ذاته حين ينظر في عالمه ثم يعيد النظر في نفسه, إنه يتعلم من الرؤية الحسية فتتشكل رؤيته الذهنية, وهاهي ذي الصحراء تنطق, تتلفظ بما في أعماقها بأسلوب جمالي فيه حياة, وهكذا البيان بالنسبة لنا فقد ارتبط السياق القرآني الذي جاء فيه ذكر خلق الإنسان وتعليمه البيان بالرحمة , فالبيان رحمة للإنسان, كل شكل من أشكال التعبير والتواصل يمارسه الإنسان لنقل مشاعره وأفكاره والتحرر من القهر والخفاء والعدم يعد رحمة للبشر, فالله –سبحانه وتعالى- ألهمنا سبل البيان لتكون جسورا لوجودنا النفسي والاجتماعي والحضاري وميراثا تاريخيا نرى به تجاربنا وأحوالنا, لذلك كانت العبارة اليونانية القديمة التي اتخذ منها "سقراط" مفتاحا لفلسفته هي "تكلم حتى أراك", فالبيان مرآة عاكسة لوجودنا, ويدرك المبدعون هذا المفهوم في ثقافات إنسانية مختلفة, فيسمي الشاعر الإسباني دييجو بالبيردي بيينا أحد مجلداته الشعرية "المرآة التي كتب عليها اسمي" وهذه المرآة بالطبع هي الكلمات التي شكلت القصائد التي يضمها الشعر المندرج في أشكال البيان التي يحقق بها الإنسان وجوده مقدما نفسه للإنسانية المتمثلة في الآخر الموجود بالفعل معه قي سياق اجتماعي واحد والآخر الموجود بالقوة في فضاء العالم ولكن مدى البصر لم يدركه, فالبيان صيحة ميلاد في وجه العدم ومعانقة للأثير الذي تسري فيه روح المكان أمام حواسنا الساعية للرؤية.
وفي مجال فهم البيان بوصفه رحمة وهبها الله –سبحانه وتعالى- للإنسان يحقق بها وجوده في قلب الفضاء ويرى بها ذاته مثلما يرى الكون أمامه على مرمى البصر, يترجم الصاوي شعلان عن الشاعر محمد إقبال قوله:
فإلى متى صمتي كأني زهرة / خرساء لم ترزق براعة منشد
قيثارتي ملئت بأنات الجوى/ لابد للمكبوت من فيضان
صعدت إلى شفتي خواطر مهجتي/ ليبين عنها منطقي ولساني
إن أبيات إقبال تعد فهما مثاليا لمعنى البيان, والصورة التي قدم بها هذا الفهم تنطلق في أفق كوني يستحضر مفردات الطبيعة فيستعيد المتلقي معه رؤية اللوحة البيانية في لسان العرب, تشكو ذات الشاعر حالة الصمت وتبدو أمام نفسها زهرة عاجزة عن الكلام لم تمسها بعد اليد المانحة لهذه المعجزة, والإنسان يمتلك قيثارة يمكن أن تتمثل في أوتار حنجرته حين ينطق أو أنامله حين يكتب أو عينيه حين ينظر, إنها أوتار حركاته وسكناته الدالة على أحواله, أو فلنقل إنها مراكز البيان المتصلة بنبض القلب وأعصاب المخ ومراكز الحس, ومن تجاربنا الشعورية في الإدراك يتدفق التيار النفسي ويتضاعف الرصيد المعرفي ونسعى للجداول التي نصب فيها مداد الروح أو ذاك السحاب الأحمر على حد تعبير مصطفى صادق الرافعي.
يأتي أهم فعل في العملية البيانية كما يرى إقبال "صعدت إلى شفتي.." البيان حركة صعود, تدفق في مساحة, فكما ترى العين الفضاء الصحراوي وهي تسعى إلى علامة حيوية يسكن عندها البصر تتدفق المعاني في النفس ساعية إلى علامة بيانية تسكن فيها, في هذه الرحلة يتألق الشعور الإنساني معايشا اللذة والمعاناة, وعندما يتحقق سكن المعاني في العلامات يكون فاعل الرحلة قد أنجز شيئا من التحرر أو ألقى مهمة رعاية هذه المعاني على عاتق ذات أخرى.
ويدرك إقبال جوهر الفعل البياني حين ينظر إلى العملية التعبيرية بوصفها الفيض الذي ينطلق بعد امتلاء شعوري, فالإبداع تدفق لحالة لا تستطيع الذات احتمال ضغطها المتصاعد, حالة تشبع نفسي وشعوري وذهني تتطلع إلى متنفس تنطلق في أفقه, أو كالماء الذي يخترق الأرض حتى يتدفق في نبع, وقديما شبه جرير هذه الحالة بالدموع التي لا بد لها أن تسيل مع كل تجربة تحقق وفقد "وشلا بعينك ما يزال معينا"وإقبال يخاطبه حين يقول عن مفهوم الإبداع "لابد للمكبوت من فيضان", لذلك نجد بعض العناوين الدالة على الربط بين الإبداع والتدفق الناتج عن امتلاء شعوري مثل "فيض الخاطر" لأحمد أمين, وفي هذا الفيض تتحرر ذات المبدع بالعملية البيانية كما يتحرر الماء بالانطلاق من الحيز المحدود إلى الفضاء المطلق متجاوزا الحصار والاختناق.
إن مفهوم التحرر بالبيان بعد رحلة معاناة فيها جمال ومشقة يجعلنا نعود مرة أخرى إلى لسان العرب ونقرأ بعض ما جاء في مادة بين كي نرى كيف تتصل الدلالات وتغذي بعضها بعضا في تيارات ممتدة عبر جداول دلالية تحمل خلايا المعاني وتزيد خصوبتها, فيقول المعجم العربي في اللوحة الشاملة لمادة "بين" في لسان العرب: "البين في كلام العرب جاء على وجهين: يكون البين الفرقة, ويكون الوصل, بان يبين بينا وبينونة, وهو من الأضداد.. ويكون البين اسما وظرفا متمكنا.. والمباينة: المفارقة.. وتباين الرجلان: بان كل واحد منهما عن صاحبه, وكذلك في الشركة إذا انفصلا.. وبانت المرأة عن الرجل انفصلت عنه بطلاق.. والطلاق البائن: هو الذي لا يملك الزوج فيه استرجاع المرأة إلا بعقد جديد.. وبيّن فلان بنته وأبانها إذا زوجها وصارت إلى زوجها.." إن "البين" يستحضر دلالتين متقابلتين (الفراق والوصل) ولكنهما صادرتان عن أصل واحد وهو وجود علاقة بين طرفين, وجود اتصال يتطور في اتجاه الانفصال, تماما كما هو الحال في العملية التعبيرية, الإنسان يكون مسكونا بحالة, يبحث لها عن لها الشكل الذي ستسكن فيه, تقترب الحالة من اللغة, من الأبجدية البيانية, من الوحدات التي يمكن أن تحتويها, تتم عملية التبيين حين نفارق الحالة التي عشنا فيها واستمتعنا بها وتألمنا في رحلة صياغة المعنى الهائم في النفس وتحويله –بقدر إدراكنا له وتفاعلنا مع اللغة- إلى كيان رمزي قابل للنظر والتأمل, كيان أصبح له وجوده الخاص على مسافة منا, فبان عنا من جهة وبان بوجوده الذاتي الخاص من جهة أخرى.
بالتأكيد كانت المعاني ساكنة فينا قبل أن تتحول إلى بيان, وبالتأكيد سارت هذه المعاني مدفوعة ومشحونة بمشاعرنا وأحوالنا وإدراكنا حتى سكن منها ما سكن في أبجدية اجتماعية رمزية أقرها العرف الإنساني وأقام بها نظاما للتواصل, وهذا المعنى المعجمي يزداد وضوحا بدلالة أخرى استخدمها العربي في فعل الطلاق, فالمرأة بانت إذا انفصلت عن الزوج بطلاق, ولننظر إلى عملية الالتقاء الدلالي بين انفصال المرأة عن الزوج من جهة وتحول المعنى النفسي إلى بيان تعبيري نصي من جهة أخرى, إن المرأة كانت سكنا للزوج وكان سكنا لها, عاشا معا تجربة حيوية فيها حب ولذة وعشرة وخصوبة ومعاناة, ثم حدث انفصال خرجت المرأة من قلب الزوج وعقله وبيته, بانت, أصبح لها كيانها المنفصل, تماما كالمعاني التي تعيش في الذات, المعاني التي تسكن في نفوسنا, نراها وحدنا, تتكشف لنا فقط, تتراءى أمام وعينا في عالمنا الداخلي, ثم ترحل في متعة ومشقة ومعاناة لتسكن في أشكال التعبير, وتخرج من أعماقنا ويصبح لها وجودها الخاص.
الأب كذلك بيّن بنته وأبانها فبانت عنه إذا زوجها فصارت إلى زوجها, الأب يرعى بنته يستمتع بمعنى الأبوة مع ما فيها من مشقة ومعاناة ومسئولية, هذه الابنة تخرج من عنده إلى بيت آخر تبدأ فيه حياة جديدة مع زوج في سكن نفسي واجتماعي, وإذا انفصلت عن الزوج فقد بانت أيضا وأصبحت لها حياة جديدة.
وهكذا المعاني التي نستمتع بها ونعاني معها وهي في عالمنا حتى يصبح لها الكيان المستقل في رحلة اجتماعية جديدة, فالفعل البياني يسير مصاحبا رحلة الإنسان ومتوازيا مع أنماط الحياة الطبيعية في الفضاء الصحراوي الكبير الذي يسمح بأفق واسع للرؤية ويطرح علامات حيوية وطبيعية (نبات وهضاب وجبال) أمام الحواس والذهن, وفي العلاقات الإنسانية التي تتفاعل في مسافات من التواصل والانقطاع حينما نتأملها تبين لنا عن حقيقتنا التي لا ندركها إلا بعد التجربة بكل ما فيها من تدفق انفعالي وجداني عاطفي وتأملي فكري ذهني, فالعملية البيانية التي نمارسها في تحويل عالمنا الشعوري إلى أبجدية تعبيرية تضع أمام رؤيتنا مساحة لإدراك أنفسنا المنعكسة في البيان, وكلما كانت مساحة التأمل شاسعة وعميقة تعددت المعاني التي نحصل عليها في فعل التبيين.
إن رحلة "تبيين" المعنى في الفعل الإبداعي الإنشانئ تعد حركة ذهنية في فضاء ممتد داخل وعي المبدع, فالمعاني تمضي في أفق ذهني باحثة عن السكن الذي تتحد فيه وتتخذه مستقرا لها, وكما ترتحل حاسة البصر في الأفق الصحراوي وهي تسعى لاكتشاف المساحة التي تحتويها فيتشكل فيها وجود الذات الحسي ترتحل حاسة المبدع في أفق دلالي مصاحبة المعاني التي تسافر في نفسه وهي تسعى للحلول في لغة.
ويقدم لنا الظرف "بين" منطقة التقاء بين المرسل والمتلقي, فالمعنى رسالة بينية تحتمل الوضوح الكلي الأولي التام ثم يمكن إعادة تأملها حتى نصل إلى مناطق جديدة في الأفق الدلالي, ثم نواصل رحلة الاكتشاف في ذاك الأفق سعيا لالتماس المعنى البائن.
إن المعنى في النظرية البيانية درجات ذلك لأن أصل كلمة البيان متصلة دلاليا بالأفق الذي نرى فيه العالم الممتد بقدر ما يستطيع البصر أن يرى, ولاشك أن الذات التي تقوم بعملية "التبيين" لها حالات شعورية وقدرات ذهنية وخبرات ثقافية وهذه العناصر تحدد مكانها في الأفق البياني لحظة إنتاج النص أو لحظة استقباله.
إننا نستطيع القول بوجود ما يسمى "المسافة البيانية" وهي المساحة التي يقطعها وعي المبدع بالمعاني الشعورية حتى يلتمس لها الوجود الرمزي المناسب في الأبجدية التعبيرية المتفق عليها في المنظومة الاجتماعية. وهذه المساحة يرتحل فيها كل من يصوغ رسالة بيانية, ويلتقي المبدع والقارئ معا في منطقة ما داخل الأفق الممتد الذي ترتحل فيه المعاني وتمثل الأبجدية علامات إرشادية فيه, لذلك تقدم النظرية النقدية المعاصرة في القراءة ما يعرف بأفق التوقعات أي المنطقة الدلالية التي يلتقي فيها المرسل والمتلقي تعكس ما يتمتعان به من خبرات مشتركة ومناورات ذكية تسمح باستمرار عملية التواصل, والطريف أن النظرية البيانية العربية تضع أمام الباحث عن الأصول الاشتقاقية المعجمية لمصطلح البيان, مفهوم الأفق الذي يساعدنا كثيرا في صياغة تصور لطبيعة المعنى بوصف المعنى ناتج لرحلة الإدراك التي تمر بها الذات في المسافة البيانية.
إن الحركة الذهنية الأولى في التفاعل مع الرسالة البيانية تستحضر المعنى البين الواضح الظاهر المتفق عليه الذي نفهمه جميعا ونقربه, ومع مواصلة السير في الأفق البياني, أو مع المضي في المسافة البيانية يظهر معنى إضافي, معنى يفسر لنا شيئا ويكسبنا فهما جديدا هذا هو المعنى البيني, وكلمة "بين" الظرفية فيها استحضار لهذه الدلالة, فيها إشارة لمنطقة التقاء بين المبدع واللغة من جهة, وبين المبدع والمتلقي من جهة أخرى, فإذا مضى المرتحل في المسافة البيانية ساعيا إلى الأفق البعيد فإنه بعد جهد ذهني قد يصل إلى درجة عالية من فهم أشكال التعبير والخبرات الإنسانية ويساعده هذا الفهم على الوصول إلى المعنى البعيد للنص الإبداعي ذاك المعنى الذي يمكن أن نقول عنه المعنى البائن.
إن الصحراء بأفقها الشاسع البين أمام الذات تصبح وسيلة تعليمية نعرف من خلالها أنفسنا ونكون من تأملها رؤيتنا ومفاهيمنا, فتفاعل الذات مع الفضاء تحدد رؤية العالم, تلك الرؤية التي ستنمو بذورها في الشجرة اللسانية المتوارثة النامية في أفق الزمان فتحمل جذورها ميراث الإنسان الجيني الروحي والعقلي والوجداني الذي يظل ساريا في جسد الشجرة حاملا خلايا الهوية مهما تعددت الفروع وتشابكت الأغصان في المسار التاريخي للذات, لذلك فالتحليل الإيتيمولوجي الاشتقاقي للمصطلحات الأدبية يمكن أن يساعد في تأسيس الرؤية النقدية العربية لأن اللغة هي مفتاح الشفرة الحضارية للهوية, واللغة العربية تختزن كثيرا من الأسرار التي ستكشف لنا عن رؤيتنا للعالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق