الثلاثاء، 17 مايو 2011

فن القراءة: النص صوت وصورة

                   النص الأدبي أفق يسري فيه الصوت وتتابع الصور
                                         
    العمل الإبداعي مساحة صوتية مرئية: الصوت فيه هو الأثير الناقل للنبض والصور هي "البان" أو التكوين الجمالي الذي يسطع في مخيلة المتلقي أو فلنقل "المدرك" لأن هناك فرقا بين التلقي والإدراك، فالتلقي قد يكون سلبيا أما الإدراك فهو عملية ذهنية نفسية تعالج ما تتلقاه الحواس.
    أي نص يمكن التعامل معه من خلال ثنائية الصوت والصورة:
    في معالجة الصوت علينا أن نحدد:

-         مرجعية المتكلم في النص:

    الضمير المستخدم: متكلم / مخاطب/ غائب/ مفرد/ جمع/ مذكر/ مؤنث / ذات/ شيء

-         إيقاع الصوت: تعامله مع الزمن في المتوالية اللغوية أو الجملة الإبداعية: التكرار وأشكاله والخروج عليه/ علاقة البناء الصوتي بالوحدات النصية الأكبر: الصيغ الصرفية/ الجملة/ التماسك النصي/ الدلالات الإيحائية للأصوات

-         نبرة الصوت: هادئ/ حاد/ ساخر.........

-         تشخيص الصوت في نموذج: شخصية لها مقومات ورأي

-         الآحادية والتعدد: صوت واحد في النص أو أصوات/ كل صوت منفرد في حيزه أو السياق متشابك/ المونولوج والديالوج/ تقاطع الأصوات في المونولوج/ التناص أو التعدد الصوتي في التشكيل اللغوي للنص وتوظيف الصوت المتكلم للتناص: ذاكرة / استلهام إبداعي في التشكيل/ مع من يقف الصوت/ من يرفض (من الأصوات المحيطة)

-         موقف الصوت: انتماء/ اغتراب/ قبول/ رفض/ نقد/ ترسيخ/ تحذير/ تحريض/ إقبال/ إدبار

-         العلاقات الدرامية الناتجة عن تعدد الأصوات

-         طبيعة الصوت: مؤرخ/ مسجل/ معلق

الصــــــورة:

-         ماذا نرى في الأفق البياني: المرئيات/ النماذج الشخصية/ الأشياء/ الفراغ/ الثبات/ الحركة/ اللقطة أو المشهد وتتابع المشاهد أو تعددها أو تجاورها

-         كيف نرى: موقع الراوي/ زاوية الرؤية أو المنظور أو وجهة النظر

-         علاقة المرئيات: بؤرة الصورة/ الخلفية/ الهامش/ التماسك التصويري: تحديد العلاقات بين عناصر الثورة

-         ألوان الصورة: هادئة / صارخة / محايدة: علاقة اللون بالإضاءة

هذا التصور يمكن الإفادة منه في تحليل أي نص أدبي سواء أكان شعريا أم سرديا أم مسرحيا

    في نص فاروق جويدة: النجم يبحث عن مدار الذي رأينا منه "وجه جميل/ طاف في عيني قليلا واستدار"

    نلاحظ أن الصوت يرى.. الصوت يشاهد/ ثم يعلق في النهاية

    لا نعرف أن الصوت خاص بالمتكلم المفرد إلا من كلمة "عيني" أي من حاسة الرؤية نفسها فهذه الكلمة هي نقطة التقاء الصوت بالصورة، بالتالي فالقصيدة هي قصيدة رؤية

    القصيدة سعي إلى الرؤية.. ولكن هل الرؤية داخلية أو أنها ترصد ما بالخارج؟

    إن الوجه المرئي طاف في العين.. فهو في حاسة البصر.. هو في الداخل.. وهو في حالة حركة سريعة.. وميض من نور جميل

    وجه جميل.. ذاك الموصوف الذي أتى في صيغة النكرة التي تحتمل كثيرا من المعاني المطلقة.. وجه أتمناه وأحبه وأبحث عن ذاتي فيه..

    ثم حركة درامية.. محاولة لإدراك الوجه..

    رؤية وجه (الذات) في الجدار.. رؤية وجه الواقع في فضاء مصمت مغلق

    العالم الجميل الذي نراه في لحظة بأعماقنا.. لحظة حقيقة إدراكية.. والعالم المغلق الذي نرى فيه صورتنا المألوفة

    فاروق جويدة صوت أفلاطوني.. الحقيقة هي التصور الذي يسكننا.. الحقيقة هي مرآة في أغوار أنفسنا نراها في بصيرتنا

    والواقع الذي نعيشه حصار ثابت يعوق حركتنا نحو الحقيقة

    الواقع الذي نعيشه جدار تنعكس عليه صورنا التي لا تضاهي الحقيقة التي نتمناها وتتجلى لنا في لحظة صدق تنير بصيرتنا لنظل في سعي دائم إلى الوجه الجميل المطلق

   

الأحد، 15 مايو 2011

فاروق جويدة في النجم يبحث عن مدار

صورتنـــا وصوتنــــا بين المدار والجدار (ثنائية الانعتاق والانغلاق)
وجه جميل
طاف في عيني قليلا واستدار
ومضيت أجري خلفه
فوجدت وجهي في الجدار –المقطع الأخير في قصيدة فاروق جويدة: النجم يبحث عن مدار
    اقرأ كل القصائد، كل القصص والروايات، كل المسرحيات، كل الخواطر والتأملات، اقرأ كل أشكال الإبداع وألوانه، من بوابة الصوت والصورة.
    لأن حواسنا مقيدة، لأننا لا نرى إلا بقدر ما يستطيع البصر أن يمتد في الأفق البعيد، ولا نسمع إلا تردد الذبذبات في أمواج الأثير المحيط بنا في ذاك الأفق أيضا، لأننا نريد أن نتحرر من عجزنا وضعفنا، لأننا ندرك جيدا أننا لن نخرق الأرض ولن نطاول الجبال، لأن جدنا الأول كان في الجنة قبل أن يأتي إلى الأرض، فإننا نتطلع إلى كل ما هو بعيد، لأن الروح تسعى بلا حدود والحواس مكبلة بالقيود، لأن الإبداع هو الخروج من أسر العجز الحسي والنفسي والاجتماعي بل هو محاولة للخروج من المنطق المألوف، فإننا نتكلم بالصوت والصورة، تنطلق أصواتنا ساعية في الفضاء الممتد تأمل في اختراق الآفاق. ولكي لا يضيع الصوت يسكن في صورة.
    الأفق ليس حولنا فقط بل هو في أعماقنا، نحن نمتلك عالما رحبا نبصر فيه ملامحنا الروحية والذهنية والوجدانية التي لم تتشكل في الواقع، في العالم المحسوس الملموس، لكننا نكاد نرى هذه الملامح جملية واضحة متحررة بعيدة في مخيلتنا، في مناطق من أنفسنا، لا نتبينها ولكننا نتمنى أن نكون هكذا، نتمنى أن نقترب من هذا الكائن الجميل الذي نستحقه، الذي سيحبه كل من يراه مثلما نحبه، لأنه صادق تماما ونقي تماما ومخلص لكل القيم السامية، كائن يسعى للخير والصلاح والنبل، كائن يرى يقينه أمامه جليا، كائن يمنح البشر ما بيده ويعلم جيدا أن ما معه يزيد بالعطاء.
    هذا الكائن/ الوجه نراه في لحظة صفاء فنتعلق به ونظل عمرنا نسعى إليه، نجري في مداره، المدار ذاك الفضاء الخالي من الحواجز والسدود، ذاك الفضاء المنير بالنجوم التي تبتسم لنا عيونها وقلوبها ونحن نطوف بحثا عن حقيقتنا.
    ولكن تلك اللحظة الساطعة التي نتمناها تنغلق حين نخوض الرحلة فإذا بنا نرى وجهنا الذي نعرفه في ذاك الحاجز الواقعي الذي يحاصرنا ويسد أمامنا الطريق، ذاك الجدار.
    إن ثنائية (المدار/ الجدار) هي المدخل الفكري الذي ترتحل فيه بصائرنا ونحن نبحث عن وجه الإنسان في قصيدة فاروق جويدة.

الجمعة، 6 مايو 2011

عز الدين شكري في غرفة العناية المركزة وسرد الأضواء الكاشفة

أضواء السرد الكاشفة ونظارة مسرور السوداء:
    قراءة في الإعداد الروائي لثورة 25 يناير
    لكي تتقدم الأمم وترقى في درج الحضارة عليها أن تقرأ: تقرأ ما منحته السماء لنا من كلمات هادية، تقرأ الكتاب الكوني المتناسقة سطوره في جمال محكم،  تقرأ دفاتر أحوال التجارب التي دونها التاريخ في قصص الدول المتداولة أخبارها في سوق السياسة وميادين العمران، تقرأ النفس الإنسانية التي تبصر ما في أعماقها من حقيقة وتتعلل بالأعذار وتركن إلى الوهم القاتل.
    لكن كثيرا من الحكام لا يكترثون  بفن القراءة، ولا خبرة لديهم بمطالعة كتاب الوجود وسجلات المؤرخين، إنهم يتصورون أنفسهم على نحو مغاير للجميع، يتصورون أن جبل السلطة عاصم لهم من طوفان المظالم الصارخة الآتية من كل فج بالعواصم والمدن والسواحل والصعيد، إن كثيرا من الحكام لا تصافح بصائرهم نصوص الحياة ولا الرؤى الساطعة التي تبثها شمس الإبداع في سطور المؤلفين.
    هل انصت أحد أعضاء الحزب الذي كان حاكما في مصر قبل 25 يناير 2011 إلى الصوت الآتي أو طالع أحد الساسة عندنا هذه اللوحة القصصية:
    "بص حضرتك من الشباك، شايف عمال المسطحات المائية دول؟ طول النهار يضربوا كردون حوالين ورد النيل بالبراميل، وبعدين يلموا الورد في مراكب وينقلوه بره النيل، زي ما بيعملوا مع شبابنا بالضبط، بس كل يوم بيطلع لهم ورد جديد بره الكردون اللي ضربوه، فيروحوا يعملوا كردون على الورد الجديد ويلموه، يكون طلع ورد في المكان القديم، وهكذا. لما الورد كتر عليهم راحوا جابوا المكنة اللي شبه الونش دي، بس مش عارفين يعملوا إيه بيها! لو كان الورد ده شجر كبير كان الونش شاله في نص يوم، لكن حايعمل إيه الونش في شوية ورد متناثر ومالي سطح النهر كله؟ حاليا إحنا نظامنا عامل زي الشجر الكبير، ممكن لا قدر الله الحكومة تهده بالونش. أنا عايزة أغير نظامنا من الاعتماد على الشجر للاعتماد على الورد، على شبكة من الشباب إن شاء الله تبقى زي الورد." –عز الدين شكري: غرفة العناية المركزة – القاهرة – ط أولى – دار شرقيات – 2008م – 129
    من المؤكد أنهم لا يعرفون فن القراءة، ربما على العاملين في السياسة أن يذهبوا إلى دورات في النقد الأدبي وتذوق جماليات الكتابة والفنون المختلفة وتحليل النصوص وتفعيل إعمال العقل وإعادة منظور الرؤية مع المستجدات الاجتماعية التي شاركوا في صياغتها بالإيجاب أو السلب أو تركوها تنمو بعيدا عنهم حول البئر المعطلة متحصنين بالقصور المشيدة المصفوف حولها الحرس المتعب المنتمي إلى عالم الجفاف.
    إن الصوت السالف يمنحه الروائي عز الدين شكري لشخصية المحامية "داليا الشناوي" التي اتخذت أكثر من سبيل في الحياة وانتقلت من خانة "التحرر" الباريسي الستيني إلى موقع الأصولية الإسلامية في مطلع القرن الحادي والعشرين، إنها ترى الحياة في بلادها من خلال قراءتها لصورة جغرافيتها، صورة النيل شريان مصر وقد انتشر فيه الورد المتزاحم بلا توظيف ولا قيمة يمكن أن يؤديها في سياقه ولكي يستمر هذا السياق مكرسا لوجود سدنته يقوم بحصار هذا الورد ثم اقتلاعه، لكن الورد لا ينتهي، إنها سنة الحياة، إنه قانون التجدد، إنه زمن التغيير، تدرك المحامية أن المستقبل ليس للشجر العجوز المنهك الذي يكاد يموت واقفا وإنما هو للورد الصغير الزاحف بقوة إلى قلب البلاد متدفقا من شريان الأب في جسد الأم.
    يرسخ السرد الفكرة عن طريق الصورة، إنها المرآة التي تتجلى فيها الأفكار والإطار الذي يضم المواقف، يبدو التشبيه التمثيلي رائعا وساطعا في الفضاء الروائي، يبدو جسد المكان وكأنه خلية في صورة أشعة للوطن المريض، الورد الشباب والأشجار السلطة القديمة والونش القوة ونهر النيل أيقونة مصر في أذهان الأمم. أما الصوت فهو لشخصية تماثل الأم التي تبحث عن مستقبل الأبناء قبل أن يأتي يوم الصدام بين موقف الجيلين ويتمرد الورد على الشجر رافضا السلطة الأبوية المصطنعة التي لم تقدم له حياة وإنما تستهلك حياته لتحتفظ بمصدر الارتواء المادي والمعنوي.

الخميس، 5 مايو 2011

أيام النوافذ الزرقاء للروائي عادل عصمت


    مقطع وقراءة من رواية أيام النوافذ الزرقاء للأديب المصري عادل عصمت:
    "أصابتني أول أزمة قلبية. استشرت طبيبا من أصدقائي. قال: "الأمر بسيط، تراكم كولسترول في بعض الأوردة." ولما رآني مهموما قال جادا: "الأمر في بدايته، لا تقلق، انقص وزنك ومارس أي نوع من الرياضة... والأهم غيَر الجو.." قلت: "أفكر في الإسكندرية." قال باسما: "لا تنزل مصر.. زحمة وقرف." قلت: ماذا تقترح؟" قال: "اليونان أو تركيا بلاد جميلة." ثم قال مبتسما: "أعرف أنك من الأثرياء.. اذهب إلى اسبانيا." ثم سأل دون سبب: "لم تنزل مصر من مدة؟" قلت بعد صمت خجل: "خمس عشرة سنة." لم يلاحظ الصمت ولا الرعشة الخافتة فقال مبتسما: "تغيرت تماما، لن تعرفها." سألت مندهشا قبل أن أغادر العيادة: "يعني الأمر بسيط فعلا..؟" "سافر ومارس الرياضة.. ستنتهي المشاكل." أعطاني الفحص الطبي مبررا لكي أحاول جادا إيقاف تعلقي بالأحلام التي بدأت تخيفني بكثافتها وثقلها وواقعيتها. واجتهدت أن أجبر نفسي على التفكير بأنه آن الآوان أن أنزل إلى مدينتي وأزور خالي "محمود". كنت أقود سيارتي في الليل عائدا إلى بيتي، لمحت طيفا يعبر أمامي، قلت إنه إرهاق. رددت كلمة "إرهاق" عدة مرات خائفا لأن الطيف الشاحب الذي ظننت أنه تشكَل من انعكاس أضواء السيارات المتقابلة كان يشبه طيف جدتي وعندما نمت في تلك الليلة حلمت بها تطير في الفضاء بجلباب منزلي أبيض. كان الجو عاصفا، الهواء يزوم ويصفق النوافذ، شعرت ببرودة ثقيلة ثم هطل المطر غزيرا. سمعت نقرا على زجاج النوافذ. انقبض قلبي وقمت من فراشي. فتحت باب غرفة الجلوس. كان النقر صاخبا، اقتربت من النافذة، كانت بلورات الثلج تتراكم على السياج ولما دققت النظر رأيت شظايا زجاج أزرق." –عادل عصمت: أيام النوافذ الزرقاء – القاهرة –دار شرقيات – ط 1- 2009- ص125-127
    تصل رواية عادل عصمت بين زمنين (الآن/ النكسة) فما تعيشه مصر قبيل الثورة كان أشبه ما يكون بهزيمة نالت كل جوانب الحياة، انفصل جيل الوسط عما يحدث مضطرا للعمل في الخليج بعد أن سقط النظام معنويا في الداخل وحدث تفريغ لقيم العمل وتكافؤ الفرص والجدية ولم يعد سوى الحل الفردي لكل فئة ثم كل أسرة ثم كل فرد، إن هذا التشتت كان هزيمة حضارية بكل المقاييس، فإذا أضفنا إليه التعتيم الإعلامي الذي أدارت به المؤسة الحكومية قبل 25 يناير أمور البلاد في زمن لم يعد بيد السلطة أن تنتهك حق الناس في المعرفة، سنجد أن العنوان الذي اختاره عادل عصمت للرواية كان دقيقا وموحيا ومرتبطا بالمضمون الروائي في هذه اللحظة الآنية وليس فقط مجرد استحضار لتجربة تاريخية سابقة في نهاية الستينيات، إن المصري الذي عاصر حروبا قاسية متحملا أصعب الظروف كي تستعيد بلاده كرامتها بعد النكسة لم يستطع أن يتحمل ما بعد الانفتاح ثم ما بعد تكريس الحلول الفردية منذ عام 1977 وإذا كان هناك من يخجل لأنه لم ير بلاده منذ خمسة عشر عاما وهو المريض الذي سد "الكوليسترول" شرايينه فأصيب بأزمة قلبية فإن الطبيب لم يتوقف كثيرا عند هذا الانصراف الذي فصل الإنسان عن الوطن لأنه يرى جسد مصر المتعب وشرايينها المصابة ومن خلال المفارقة يتحول مرض المصري الذي لم يعد قلبه قادرا على بث الدماء في جسده إلى أزمة بلد كامل في نوع من المجاز المرسل النصي، أي دلالة الجزء على الكل، وتأتي النهاية المنذرة بهزيمة أكثر ألما من النكسة التي لم ينكسر زجاج النوافذ الأزرق أيامها لكنه انكسر في كابوس المغترب الذي يجد خلاصه في الاستئناس بالراحلين في إشارة إلى النهاية المعنوية لجيل وصلت تجربته الفردية إلى طريق مسدود وتناثرت أيامه شظايا زرقاء في دورة زمنية تصل الطفولة الستينية بالكهولة الآنية، بالتالي لم تكن العودة إلى الماضي نوعا من حنين المغترب إلى مدينته الدلتاوية ولا استلهاما للحظة انتصار قديمة يقتبس منها شعلة حياة ولا وعيا ذهنيا يصل الماضي بالحاضر لكي يسير التاريخ في مساره الخطي نحو التطور ولا هروبا من اغتراب نفسي نتيجة تغير معطيات الحضارة وإنما كانت العودة إلى زمن النوافذ الزرقاء، زمن ما بعد النكسة استشرافا حدسيا لنهاية النظام القائم في مصر، مع الوضع في الاعتبار أن هذه البنية الدائرية تعلن بذكاء أن السياق الذي عاش فيه هذا الجيل لم يستطع أن يخرج بمصر من المأزق الذي عشناه جميعا من منتصف الستينيات، مأزق التسلط والطغيان وفقدان الشفافية والعماء الروحي المفروض على مجتمع حاول نظامه أن يحجب الرؤية والصوت ظنا منه أن بقاءه مرهون بالصمت والظلام، إن العمل الفني يخاطبنا بأبجدية الصوت والصورة، والصوت الذي نسمعه عند عادل عصمت هو الانكسار الذي يطيح بالعمر والأحلام والمكاسب المادية التي كرسَت لها سنوات الغربة اهتمامات الجيل الذي عاصر في طفولته قضايا وطنية كبرى وانكسر في منفاه الاختياري أما الصورة التي نراها في الأفق أمام المخيلة لتضع معانيها أمام البصيرة الناقدة فهي الفضاء الأزرق الذي تغيب فيه الملامح الحقيقية للأشياء فلا نرى إلا أشباح العالم أمامنا لأن الحقائق تظل غائبة في ظلام فرضه الظالمون قبل أن يسقط نظام التعتيم في هاوية العدم.    

الثلاثاء، 3 مايو 2011

البانـــــــــــــة النص الجميل


    في رأينا أن "البانة" يمكن أن تكون كل نص جميل يعبر به الإنسان عن نفسه فيعلن عن وجوده ويحرر نفسه من الصمت ويضع صورته أمام العالم ويسري صوته في الفضاء والنص الجميل سمو وارتقاء يظهر في أفق التواصل من بذرة روحية في أعماق الإنسان.
    ونبدأ من "لسان العرب" بتحديد الأصل المادي للفظ "بانة" ثم نأخذ منه الروافد الدلالية التي تسمح لنا بهذا التأويل:
    "البان شجر يسمو ويطول في استواء.. واحدته بانة له هدب طوال وينبت في الهضب وثمرته تشبه قرون اللوبياء إلا أن خضرتها شديدة.. ولاستواء نباتها ونبات أفنانها وطولها ونعمتها شبه الشعراء الجارية الناعمة بها فقيل كأنها بانة وكأنها غصن بان". هكذا تحدث معجم "لسان العرب" لابن منظور.
    إن نبات البان المستوي الأخضر الجميل ينمو في الهضاب, إنه علامات الحياة بكل ما فيها من سمو وجمال, الصحراء تنطق أو الفضاء الصحراوي يبين عن نفسه وعما يختزنه في أعماقه بشجر البان, في هذه المساحات الصفراء الشاسعة يظهر البان على المرتفعات فتراه عين المتأمل.
    إن الصحراء تمارس العملية البيانية, كل فضاء بداخله شيء يمكن طرحه, وتحت الصمت والسكون بذور تسعى للانطلاق والسمو والارتفاع كما يعلو النبات من بذرة في باطن الأرض, أي في قلب الفضاء, إن العملية البيانية هنا تتحول إلى مفهوم شامل يدركه العقل الإنساني حين يتعلم من الكتاب الكوني, لذلك كان الإنسان مطالبا بالسير والنظر في المكان الذي يستوعبه وفي نفسه التي يرى فيها مساحات من الغموض والثراء والحيوية مثلما يرى في عالمه الخارجي, ومن هذا الإدراك لرؤية المكان يأتي مفهوم العالم النفسي أو العالم الداخلي, فالإنسان يدرك ذاته حين ينظر في عالمه ثم يعيد النظر في نفسه, إنه يتعلم من الرؤية الحسية فتتشكل رؤيته الذهنية, وهاهي ذي الصحراء تنطق, تتلفظ بما في أعماقها بأسلوب جمالي فيه حياة, وهكذا البيان بالنسبة لنا فقد ارتبط السياق القرآني الذي جاء فيه ذكر خلق الإنسان وتعليمه البيان بالرحمة , فالبيان رحمة للإنسان, كل شكل من أشكال التعبير والتواصل يمارسه الإنسان لنقل مشاعره وأفكاره والتحرر من القهر والخفاء والعدم يعد رحمة للبشر, فالله –سبحانه وتعالى- ألهمنا سبل البيان لتكون جسورا لوجودنا النفسي والاجتماعي والحضاري وميراثا تاريخيا نرى به تجاربنا وأحوالنا, لذلك كانت العبارة اليونانية القديمة التي اتخذ منها "سقراط" مفتاحا لفلسفته هي "تكلم حتى أراك", فالبيان مرآة عاكسة لوجودنا, ويدرك المبدعون هذا المفهوم في ثقافات إنسانية مختلفة, فيسمي الشاعر الإسباني دييجو بالبيردي بيينا أحد مجلداته الشعرية "المرآة التي كتب عليها اسمي" وهذه المرآة بالطبع هي الكلمات التي شكلت القصائد التي يضمها الشعر المندرج في أشكال البيان التي يحقق بها الإنسان وجوده مقدما نفسه للإنسانية المتمثلة في الآخر الموجود بالفعل معه قي سياق اجتماعي واحد والآخر الموجود بالقوة في فضاء العالم ولكن مدى البصر لم يدركه, فالبيان صيحة ميلاد في وجه العدم ومعانقة للأثير الذي تسري فيه روح المكان أمام حواسنا الساعية للرؤية.
     وفي مجال فهم البيان بوصفه رحمة وهبها الله –سبحانه وتعالى- للإنسان يحقق بها وجوده في قلب الفضاء ويرى بها ذاته مثلما يرى الكون أمامه على مرمى البصر, يترجم الصاوي شعلان عن الشاعر محمد إقبال قوله:
    فإلى متى صمتي كأني زهرة / خرساء لم ترزق براعة منشد
   قيثارتي ملئت بأنات الجوى/ لابد للمكبوت من فيضان
   صعدت إلى شفتي خواطر مهجتي/ ليبين عنها منطقي ولساني
    إن أبيات إقبال تعد فهما مثاليا لمعنى البيان, والصورة التي قدم بها هذا الفهم تنطلق في أفق كوني يستحضر مفردات الطبيعة فيستعيد المتلقي معه رؤية اللوحة البيانية في لسان العرب, تشكو ذات الشاعر حالة الصمت وتبدو أمام نفسها زهرة عاجزة عن الكلام لم تمسها بعد اليد المانحة لهذه المعجزة, والإنسان يمتلك قيثارة يمكن أن تتمثل في أوتار حنجرته حين ينطق أو أنامله حين يكتب أو عينيه حين ينظر, إنها أوتار حركاته وسكناته الدالة على أحواله, أو فلنقل إنها مراكز البيان المتصلة بنبض القلب وأعصاب المخ ومراكز الحس, ومن تجاربنا الشعورية في الإدراك يتدفق التيار النفسي ويتضاعف الرصيد المعرفي ونسعى للجداول التي نصب فيها مداد الروح أو ذاك السحاب الأحمر على حد تعبير مصطفى صادق الرافعي.
    يأتي أهم فعل في العملية البيانية كما يرى إقبال "صعدت إلى شفتي.." البيان حركة صعود, تدفق في مساحة, فكما ترى العين الفضاء الصحراوي وهي تسعى إلى علامة حيوية يسكن عندها البصر تتدفق المعاني في النفس ساعية إلى علامة بيانية تسكن فيها, في هذه الرحلة يتألق الشعور الإنساني معايشا اللذة والمعاناة, وعندما يتحقق سكن المعاني في العلامات يكون فاعل الرحلة قد أنجز شيئا من التحرر أو ألقى مهمة رعاية هذه المعاني على عاتق ذات أخرى.
    ويدرك إقبال جوهر الفعل البياني حين ينظر إلى العملية التعبيرية بوصفها الفيض الذي ينطلق بعد امتلاء شعوري, فالإبداع تدفق لحالة لا تستطيع الذات احتمال ضغطها المتصاعد, حالة تشبع نفسي وشعوري وذهني تتطلع إلى متنفس تنطلق في أفقه, أو كالماء الذي يخترق الأرض حتى يتدفق في نبع, وقديما شبه جرير هذه الحالة بالدموع التي لا بد لها أن تسيل مع كل تجربة تحقق وفقد "وشلا بعينك ما يزال معينا"وإقبال يخاطبه حين يقول عن مفهوم الإبداع "لابد للمكبوت من فيضان", لذلك نجد بعض العناوين الدالة على الربط بين الإبداع والتدفق الناتج عن امتلاء شعوري مثل "فيض الخاطر" لأحمد أمين, وفي هذا الفيض تتحرر ذات المبدع بالعملية البيانية كما يتحرر الماء بالانطلاق من الحيز المحدود إلى الفضاء المطلق متجاوزا الحصار والاختناق.
    إن مفهوم التحرر بالبيان بعد رحلة معاناة فيها جمال ومشقة يجعلنا نعود مرة أخرى إلى لسان العرب ونقرأ بعض ما جاء في مادة بين كي نرى كيف تتصل الدلالات وتغذي بعضها بعضا في تيارات ممتدة عبر جداول دلالية تحمل خلايا المعاني وتزيد خصوبتها, فيقول المعجم العربي في اللوحة الشاملة لمادة "بين" في لسان العرب: "البين في كلام العرب جاء على وجهين: يكون البين الفرقة, ويكون الوصل, بان يبين بينا وبينونة, وهو من الأضداد.. ويكون البين اسما وظرفا متمكنا.. والمباينة: المفارقة.. وتباين الرجلان: بان كل واحد منهما عن صاحبه, وكذلك في الشركة إذا انفصلا.. وبانت المرأة عن الرجل انفصلت عنه بطلاق.. والطلاق البائن: هو الذي لا يملك الزوج فيه استرجاع المرأة إلا بعقد جديد.. وبيّن فلان بنته وأبانها إذا زوجها وصارت إلى زوجها.." إن "البين" يستحضر دلالتين متقابلتين (الفراق والوصل) ولكنهما صادرتان عن أصل واحد وهو وجود علاقة بين طرفين, وجود اتصال يتطور في اتجاه الانفصال, تماما كما هو الحال في العملية التعبيرية, الإنسان يكون مسكونا بحالة, يبحث لها عن لها الشكل الذي ستسكن فيه, تقترب الحالة من اللغة, من الأبجدية البيانية, من الوحدات التي يمكن أن تحتويها, تتم عملية التبيين حين نفارق الحالة التي عشنا فيها واستمتعنا بها وتألمنا في رحلة صياغة المعنى الهائم في النفس وتحويله –بقدر إدراكنا له وتفاعلنا مع اللغة- إلى كيان رمزي قابل للنظر والتأمل, كيان أصبح له وجوده الخاص على مسافة منا, فبان عنا من جهة وبان بوجوده الذاتي الخاص من جهة أخرى.
    بالتأكيد كانت المعاني ساكنة فينا قبل أن تتحول إلى بيان, وبالتأكيد سارت هذه المعاني مدفوعة ومشحونة بمشاعرنا وأحوالنا وإدراكنا حتى سكن منها ما سكن في أبجدية اجتماعية رمزية أقرها العرف الإنساني وأقام بها نظاما للتواصل, وهذا المعنى المعجمي يزداد وضوحا بدلالة أخرى استخدمها العربي في فعل الطلاق, فالمرأة بانت إذا انفصلت عن الزوج بطلاق, ولننظر إلى عملية الالتقاء الدلالي بين انفصال المرأة عن الزوج من جهة وتحول المعنى النفسي إلى بيان تعبيري نصي من جهة أخرى, إن المرأة كانت سكنا للزوج وكان سكنا لها, عاشا معا تجربة حيوية فيها حب ولذة وعشرة وخصوبة ومعاناة, ثم حدث انفصال خرجت المرأة من قلب الزوج وعقله وبيته, بانت, أصبح لها كيانها المنفصل, تماما كالمعاني التي تعيش في الذات, المعاني التي تسكن في نفوسنا, نراها وحدنا, تتكشف لنا فقط, تتراءى أمام وعينا في عالمنا الداخلي, ثم ترحل في متعة ومشقة ومعاناة لتسكن في أشكال التعبير, وتخرج من أعماقنا ويصبح لها وجودها الخاص.
    الأب كذلك بيّن بنته وأبانها فبانت عنه إذا زوجها فصارت إلى زوجها, الأب يرعى بنته يستمتع بمعنى الأبوة مع ما فيها من مشقة ومعاناة ومسئولية, هذه الابنة تخرج من عنده إلى بيت آخر تبدأ فيه حياة جديدة مع زوج في سكن نفسي واجتماعي, وإذا انفصلت عن الزوج فقد بانت أيضا وأصبحت لها حياة جديدة.
    وهكذا المعاني التي نستمتع بها ونعاني معها وهي في عالمنا حتى يصبح لها الكيان المستقل في رحلة اجتماعية جديدة, فالفعل البياني يسير مصاحبا رحلة الإنسان ومتوازيا مع أنماط الحياة الطبيعية في الفضاء الصحراوي الكبير الذي يسمح بأفق واسع للرؤية ويطرح علامات حيوية وطبيعية (نبات وهضاب وجبال) أمام الحواس والذهن, وفي العلاقات الإنسانية التي تتفاعل في مسافات من التواصل والانقطاع حينما نتأملها تبين لنا عن حقيقتنا التي لا ندركها إلا بعد التجربة بكل ما فيها من تدفق انفعالي وجداني عاطفي وتأملي فكري ذهني, فالعملية البيانية التي نمارسها في تحويل عالمنا الشعوري إلى أبجدية تعبيرية تضع أمام رؤيتنا مساحة لإدراك أنفسنا المنعكسة في البيان, وكلما كانت مساحة التأمل شاسعة وعميقة تعددت المعاني التي نحصل عليها في فعل التبيين.
    إن رحلة "تبيين" المعنى في الفعل الإبداعي الإنشانئ تعد حركة ذهنية في فضاء ممتد داخل وعي المبدع, فالمعاني تمضي في أفق ذهني باحثة عن السكن الذي تتحد فيه وتتخذه مستقرا لها, وكما ترتحل حاسة البصر في الأفق الصحراوي وهي تسعى لاكتشاف المساحة التي تحتويها فيتشكل فيها وجود الذات الحسي ترتحل حاسة المبدع في أفق دلالي مصاحبة المعاني التي تسافر في نفسه وهي تسعى للحلول في لغة.  
    ويقدم لنا الظرف "بين" منطقة التقاء بين المرسل والمتلقي, فالمعنى رسالة بينية تحتمل الوضوح الكلي الأولي التام ثم يمكن إعادة تأملها حتى نصل إلى مناطق جديدة في الأفق الدلالي, ثم نواصل رحلة الاكتشاف في ذاك الأفق سعيا لالتماس المعنى البائن.
    إن المعنى في النظرية البيانية درجات ذلك لأن أصل كلمة البيان متصلة دلاليا بالأفق الذي نرى فيه العالم الممتد بقدر ما يستطيع البصر أن يرى, ولاشك أن الذات التي تقوم بعملية "التبيين" لها حالات شعورية وقدرات ذهنية وخبرات ثقافية وهذه العناصر تحدد مكانها في الأفق البياني لحظة إنتاج النص أو لحظة استقباله.
    إننا نستطيع القول بوجود ما يسمى "المسافة البيانية" وهي المساحة التي يقطعها وعي المبدع بالمعاني الشعورية حتى يلتمس لها الوجود الرمزي المناسب في الأبجدية التعبيرية المتفق عليها في المنظومة الاجتماعية. وهذه المساحة يرتحل فيها كل من يصوغ رسالة بيانية, ويلتقي المبدع والقارئ معا في منطقة ما داخل الأفق الممتد الذي ترتحل فيه المعاني وتمثل الأبجدية علامات إرشادية فيه, لذلك تقدم النظرية النقدية المعاصرة في القراءة ما يعرف بأفق التوقعات أي المنطقة الدلالية التي يلتقي فيها المرسل والمتلقي تعكس ما يتمتعان به من خبرات مشتركة ومناورات ذكية تسمح باستمرار عملية التواصل, والطريف أن النظرية البيانية العربية تضع أمام الباحث عن الأصول الاشتقاقية المعجمية لمصطلح البيان, مفهوم الأفق الذي يساعدنا كثيرا في صياغة تصور لطبيعة المعنى بوصف المعنى ناتج لرحلة الإدراك التي تمر بها الذات في المسافة البيانية.
    إن الحركة الذهنية الأولى في التفاعل مع الرسالة البيانية تستحضر المعنى البين الواضح الظاهر المتفق عليه الذي نفهمه جميعا ونقربه, ومع مواصلة السير في الأفق البياني, أو مع المضي في المسافة البيانية يظهر معنى إضافي, معنى يفسر لنا شيئا ويكسبنا فهما جديدا هذا هو المعنى البيني, وكلمة "بين" الظرفية فيها استحضار لهذه الدلالة, فيها إشارة لمنطقة التقاء بين المبدع واللغة من جهة, وبين المبدع والمتلقي من جهة أخرى, فإذا مضى المرتحل في المسافة البيانية ساعيا إلى الأفق البعيد فإنه بعد جهد ذهني قد يصل إلى درجة عالية من فهم أشكال التعبير والخبرات الإنسانية ويساعده هذا الفهم على الوصول إلى المعنى البعيد للنص الإبداعي ذاك المعنى الذي يمكن أن نقول عنه المعنى البائن.
    إن الصحراء بأفقها الشاسع البين أمام الذات تصبح وسيلة تعليمية نعرف من خلالها أنفسنا ونكون من تأملها رؤيتنا ومفاهيمنا, فتفاعل الذات مع الفضاء تحدد رؤية العالم, تلك الرؤية التي ستنمو بذورها في الشجرة اللسانية المتوارثة النامية في أفق الزمان فتحمل جذورها ميراث الإنسان الجيني الروحي والعقلي والوجداني الذي يظل ساريا في جسد الشجرة حاملا خلايا الهوية مهما تعددت الفروع وتشابكت الأغصان في المسار التاريخي للذات, لذلك فالتحليل الإيتيمولوجي الاشتقاقي للمصطلحات الأدبية يمكن أن يساعد في تأسيس الرؤية النقدية العربية لأن اللغة هي مفتاح الشفرة الحضارية للهوية, واللغة العربية تختزن كثيرا من الأسرار التي ستكشف لنا عن رؤيتنا للعالم.