الحبر البراق:
نظرية الانعكاس في النقد العربي
دراسة في "رسالة التربيع والتدوير"
د. س. قطب
الجاحظ أديب وعالم ومفكرعاش حياته في البصرة ما بين (159 – 255هـ ) أي أنه شارك في الحياة الثقافية لنحو ثلاثة أرباع القرن.. إذا وضعنا في الاعتبار أنه بدأ هذه المشاركة الفعلية بعد مرحلة التأسيس التي شهدت طفولته وصباه ومطلع شبابه.
عاش الجاحظ أزهى عصور الحضارة العربية وبخاصة زمن هارون الرشيد أكثر الخلفاء العباسيين شهرة. وأبدع في زمن الأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمستعين والمعتز. وظل يقرأ ويكتب حتى آخر لحظة من حياته بعد أن تجاوز تسعين عاما بسنوات حين سقطت فوقه الكتب فلفظ أنفاسه الأخيرة راحلا في صحبة من يحب.
شارك الجاحظ بعقله وقلمه في رسم خريطة الثقافة العربية وهي تؤسس مكتبتها الإنسانية الكبرى. إنه عصر التأليف والترجمة. عصر الإبداع في الشعر والقصة والرسائل. عصر النهضة العربية في العلوم والفنون. إن الجاحظ من أهم العلامات التي تحفظها الذاكرة الثقافية العربية ويفخر بها الرصيد الفكري الإنساني. ورصيده في مكتبة الآداب العالمية مازال يستثمر في كل لحظة لأن آراءه مازالت تخاطب الأفق الحضاري للإنسان. وهذا هو حال كبار المفكرين.
عاش الجاحظ مفكرا حرا. يبدع في الآداب والعلوم والفنون. ومن أعماله "كتاب البخلاء" و"كتاب الحيوان" و"كتاب البيان والتبيين" و"المحاسن والأضداد" ورسائل كثيرة من بينها "رسالة التربيع والتدوير".
نظرية الانعكاس في التربيع والتدوير:
رسالة التربيع والتدوير بحث في مشكلة الرؤية. فالجاحظ يتساءل فيها عن حقيقة ما يراه الإنسان وعن العلاقة بين الرؤية العينية والرؤية الذهنية وعن قصور حواسنا في كثير من الأحيان وعقولنا في بعض الأحيان. يقول الجاحظ في التربيع والتدوير موجها حديثه إلى المتلقي:
"وأنا –جعلت فداك- أعلم أني أسمع ولا أعقل كيفية السمع. وأعلم أني أبصر ولا أعقل كيفية البصر. ولا أدري أمعدن العقل الدماغ والقلب بابه وطريقه كما أن معدن اللون جميع النفس والعين بابه وطريقه أم معدن العقل القلب دون الدماغ. أو لعلهما موصولان غير مقطوعين. وقد اعتل قوم للدماغ بأن جميع الحواس في الرأس. واعتل قوم بالجس.. وبما يجدون في قلوبهم من الرعب والاضطراب وغير ذلك."
إن الجاحظ يتحدث عن ثلاثة مدخلات حسية: السمع والبصر والجس. والسمع مدخل الصوت والبصر مدخل الصورة. هنا يربط الجاحظ بين الصوت والصورة ربطا أساسيا في عملية اكتساب المعرفة لكنه يضيف عنصرا ثالثا هو الجس وما يثيره في النفس من اضطراب، أي أن هناك البعد الثالث الذي يجب إضافته للصوت والصورة، هذا البعد الثالث هو الحركة.
إن بداية الحصول على المعرفة تتمثل في المدخلات البيانية عن طريق الصوت والصورة ولكن لا بد من الحركة التي تثير في النفس انفعالا فتطلق فيها الرغبة في تحويل الرسالة البيانية التي تلقتها إلى إلى موضوع تأمل يمكن النظر فيه والوصول من خلال النظر إلى نتيجة تسكن إليها النفس المتوترة المنفعلة بالبيان. أي أن الحركة الشعورية هي مفتاح عملية التبيين التفسيري، أي تحليل الوحدات البيانية. وتفسير البيان وتحليله سيؤدي إلى إنتاج وحدة بيانية جديدة من ذهن الذات المنفعلة، أي يتحول المتلقي إلى مرسل.
وفي أعماقنا يتحول الصوت إلى صورة وتتحول الصورة إلى صوت. فهناك علاقة وثيقة بين السمع والبصر وهناك ربط بين الحاستين تقوم به اللغة. نحن نسمع اللغة ونرى بها أيضا ثم نتأثر حينما تلمس اللغة نفوسنا. هنا يحدث تحول لحاسة اللمس أو فعل الجس، يتحول اللمس الحسي إلى لمس رمزي، لمس لغوي. تجس اللغة إحساس المتلقي وتؤثر في مشاعره فتثير فيه توترا وجدانيا يحرك ذهنه إلى محاولة الفهم والإدراك.
ويتعرض الجاحظ في رسالة "التربيع والتدوير" لقضية الرؤية ويخصها بالمناقشة فيقول لقارئه:
"وخبرني عن المرائي وكيف صارت ترى الوجوه ويبصر فيها الخلق. وكذلك كل أملس صقيل وصاف ساكن كالسيف.. والقوارير والماء الراكد. حتى الحبر البراق."
هذا المقولة التي يضعها الجاحظ مع قارئه (الافتراضي) تطرح قضية الرؤية: ما العلاقة بين الأشياء وصورتها؟ وكيف تنعكس هذه الأشياء على سطح يستقبل صورتها ويحتويها ويحتفظ بها؟ وكيف تستقبل الأذهان عن طريق العيون تلك الصور؟
ويلاحظ القارئ الكريم أن الجاحظ استحضر مجموعة من (المرائي: الصفحات) التي تستقبل الصورة منها العين والمرآة والسيف والقوارير والماء الراكد والحبر البراق. و"الحبر البراق" هو ما يهمنا في هذه الورقة على وجه التحديد. ويرى الجاحظ أن هذه (المرائي: الصفحات) تتميز بأنها ملساء صقيلة صافية. إن الجاحظ تحدث بذكاء شديد حينما وضع "الحبر" مع هذه (المرائي) فكأنه يشير إلى انعكاس المرئيات التي تسري في نفوسنا على صفحات أوراقنا حين نكتب. وهذه رؤية جميلة وعميقة في نظرية النقد عند الجاحظ.
إن "الحبر البراق" يمتص الصور التي في نفس الكاتب، يتحول إلى مرآة تنعكس عليها الرؤية، إنه صفحة تشف ما في أعماق الأديب. إن وصف الحبر بالمرآة تعبير رائع لا يصدر إلا عن مبدع عبقري له رؤية فلسفية تشكلت منها نظريته النقدية. ويصف الجاحظ هذا (الحبر/ المداد) بأنه "البراق" أي المتألق اللامع الذي يكاد ينطق بما فيه. وهكذا الإبداع "حبر براق" مرآة شديدة الصفاء تنعكس عليها المرئيات. لكننا لا بد أن نتساءل عن طبيعة هذه المرئيات وأن نحدد مرجعيتها. فالمرآة تعكس صورة لمرجع ما، صورة وليست واقعا ملموسا، لأن الرائي لن يستطيع أبدا أن يمسك بذاك الكائن في أعماق المرآة، ربما يتعرف من خلاله على صاحبه باعتبار أن الصورة "أيقونة" تدل مباشرة على صاحبها، لكن انعكاس الصور لا يدل بالضرورة على مرجع بعينه إذ يتوقف هذا الانعكاس على طبيعة المرآة وموقع المرجع الذي تراه ومسافته وحركة من يمسك بهذه المرآة إذا كانت متحركة أو حركة المرجع (الموصوف/ المرئي) منها إن كانت ثابتة.
إذا كان الوضع التمثيلي لعملية الإبداع هكذا من خلال نموذج "الحبر البراق" هذا النموذج القائم على ثلاثة أبعاد: "المرآة والصورة والمرجع" فكيف الحال بالنسبة لهذا التشبيه في الأدب نفسه؟ بمعنى ما المرئيات التي تنعكس في "الحبر البراق"؟ إن هذا الحبر يصور الأعماق كما هو الحال في الأشعة التي تخترق الحاجز المادي لتصل إلى القلب، الحبر البراق يلتقط الصور الخافية الهلامية التي تجول في المخيلة سواء أكانت هذه المخيلة فردية لأديب بعينه أم جمعية اجتماعية كما هو الحال في الفنون الشعبية.
شكرا
ردحذف