الجمعة، 18 نوفمبر 2011

النظرية الأدبية عند العرب: رؤية تداولية


النظرية الأدبية عند العرب

رؤية تداولية (سوق/ صناعة)

من سوق عكاظ إلى كتاب الصناعتين

د. س. قطب

    هل الأدب سلعة؟

    قد يرفض بعض محبي الأدب من أصحاب النظرة الرومانسية هذا السؤال لأن الأدب في تصورهم أرقى من تناوله باعتباره منتجا ماديا يتم تداوله في الأسواق مثله مثل السلع التي تكتسب قيمتها من مفهوم الاستهلاك الذي تنظمه عملية العرض والطلب وتتحكم فيه قوى الإنتاج التجارية الصناعية. فالأدب من منظور رومانسي أرقى من السلع الخاضعة لحسابات مادية ومعايير إنتاج وسياق استهلاك واحتياجات اجتماعية لأن الآداب كائن حيوي جمالي نابع من أعماق النفس التي تمتلك موهبة وتسعى للبوح وتتخفف بالتعبير دون أن تضع في اعتبارها حسابات المكسب والخسارة وتقدير قيمة العمل الأدبي من ناحية مادية فهذا يفقده خصوصيته. ولأن النظرة الرومانسية ترى المبدع مركزا للكون والرؤية ومعبرا عن إحساس خاص بصفته روحا غربية متفردة بالتالي يتشكل مفهوم الإبداع عندها من هذه الخصوصية التي تباعد بين العمل الفني وكل أشكال التحقق المادي التي يستهلكها المجتمع.

    لكن أحدا لا يختلف على أن الأدب كيان تم إنتاجه مثلما يتم تداوله بين البشر لغايات مختلفة، بل إن النظرة إلى بعض الأعمال التي ينتجها الإنسان لغاية جمالية بحتة مثل التحف الفنية لا يمكن أن تلغي مفهوم السلعة عن هذه الأعمال التي تعرض في الأسواق فتباع وتشترى ويقدر الخبراء قيمتها التي تتزايد مع مرور الزمن، هذه الأعمال صادرة عن مبدع موهوب ماهر في تشكيل عمله الفني المتميز بالأصالة والمحتفظ بمقومات الاتساق والتناسق وكل ما يحقق له جماليات التكوين من منظور الذوق الإنساني المعاصر له بالفعل أو القادم في أفق الزمان. وكل شيء تم إنتاجه وتداوله وتقدير قيمته سواء اتفق المتخصصون من أهل هذه الصناعة على قيمته أم اختلفوا عليها فهو سلعة لها سوق لاستهلاكه من ناحية ولها معايير إنتاج متأثرة بهذا السوق من ناحية أخرى.

    أطلق العرب القدماء على المكان الذي يعرضون فيه الشعر ويتناقشون بصدده ويبحثون عن أسباب جودته وسبل إتقانه والمآخذ الممكن اجتنابها فيما تم إنتاجه ويقدرون قيمته في ضوء إجادة صاحبه لعمله اسم "سوق عكاظ". بالطبع يقدم لنا تعبير "سوق" مفهوما تداوليا لعملية إنتاج الشعر بوصفه سلعة لها آليات صناعة ومعايير تتحكم في مادته وأغراض استهلاك يتوجه إليها صاحب الصنعة الذي أتى إلى "السوق" لمعرفة قيمة عمله والإفادة من آراء أهل الخبرة.

    كان "سوق عكاظ" معرضا لتداول الشعر بوصفه منتجا مهما في حياة العربي يفيد منه ويستهلكه ويعيش به فالشعر من هذه الزاوية سلعة إن لم يكن من أهم السلع في سياق الاستهلاك، إن الشعر سلعة يتم توظيفها في السياسة والاجتماع والحياة العاطفية، سلعة لها قيمتها التداولية في أسواق التداول، سلعة لها سوق خاص بها هو "سوق عكاظ".

    إذا واصلنا التظر إلى النظرية الأدبية عند العرب القدماء من خلال رؤية تداولية  سنجد أن كلة سلعة تتطلب صناعة، فهي منتج مادي له معايير، هذا ما يؤكده أبو هلال العسكري صاحب "كتاب الصناعتين" وهما الشعر والنثر (الذي يؤدي دورا مهما في مؤسسات الدولة بوصفه مرتبطا بالدواوين الحكومية، بمعنى أن الكاتب البليغ الذي يكتب المراسلات الرسمية صاحب صناعة).

    من الرؤية التداولية التي نتناول بها النظرية الإبداعية عند العرب والوظائف التي يؤديها الإبداع سنجد أن مصطلح "النقد" يؤدي دورا مهما في ترسيخ مفهوم "الإنتاج والقيمة" بالنسبة للأدب لأن مصطلح "النقد" يرتبط بدائرتين في أنشطة الحياة: دائرة الاقتصاد (النقد يعني العملة) ودائرة الأدب (النقد يحدد قيمة العمل الأدبي) وقديما ضرب ابن سلام صاحب كتاب "طبقات فحول الشعراء" مثلا للناقد الأدبي بالصيرفي الذي يعرف العملة الحقيقية (المصنوعة/ المسبوكة) من الذهب (الدينار) أو الفضة (الدرهم) من العملة الزائفة التي لا قيمة لها.  

الاثنين، 14 نوفمبر 2011

مفهوم التبيين


                                        مفهوم التبيين
                                        د. س. قطب
    إن عملية "التبيين" تعني صياغة الصور الذهنية المنعكسة في مرآة الذات بصدد مرجع ما سواء أكان ماديا أم معنويا، أي تعني فن صناعة الصور الذهنية كما تتراءى في المخيلة، هذه الصور (اللوحات البيانية) يقوم الصانع (فاعل البيان) بمحاولة تصديرها للآخرين، أي أنها أداة دعائية تغزو أذهان الآخرين أو تسعى لأن تشغل (صفحات / مرايا/ مشاعر) الإنسانية التي يرسل لها بيانه. لكن الآخرين يملكون صفحاتهم بالتالي يحدث جدل بين الرسائل تنتج عنه صور جديدة أو رسائل بيانية لا حصر لها. إننا حينما نمارس عملية "التبيين" بإنتاج رسائل بيانية قابلة للتأمل تنعكس فيها رؤيتنا للعالم فإننا نضع هذه الرؤى في دائرة الفكر. وعلينا أن نتأمل "انعكاس" مرجعية العالم من أكثر من منظور. علينا أن نضع وجهات النظر المختلفة أمامنا ونتناولها بالفكر النقدي. وصياغة الموقف النقدي القادر على "تبيين" فعل "الانعكاس" أي القراءة الموضوعية للصور المنعكسة في البيان هو هدف الجاحظ من رسالته. إن الجاحظ ناقد لقصور الرؤية الإنسانية لأن هذه الرؤية مقيدة بمعرفة محدودة ومنظور ضيق وانفعال ذاتي.

الخميس، 3 نوفمبر 2011

نقد بلا حدود: حوار الأصالة والحداثة

                           صوت الجاحظ يتردد في أفق اللسانيات والنقد
                                           د. سيد قطب

    دراسة مقولات القدماء تفيدنا في فهم النظرية المعرفية الآنية، وكثيرا من الآراء الأصيلة تظل تتردد في فضاء الإنسانية محاورة الناتج المعرفي المتجدد.
    الجاحظ من هذه الأصوات التي تمتلك القدرة على الحضور في ساحة الفكر المعاصر والحوار مع النظريات اللسانية والنقدية الجديدة.
    إن رأي الجاحظ في تصنيف البيان إلى خمسة أنواع (اللسان والخط والإشارة والعقد والحال) يلتقي مع مفهوم علم العلامات (السيميولوجيا أو السيميوطيقا) الذي دعا إليه عالم اللغويات فردنادند دو سوسير أو عالم المنطق بيرس، فعلم العلامات يدرس أشكال التواصل الرمزي كافة، بمعنى أن مادته تشمل الأبجديات التعبيرية المتعددة التي يمارسها البشر في التعبير ونقل المعرفة، إنه العلم الذي يعالج أنظمة التعامل الإنساني كلها مثل اللغة المنطوقة والمكتوبة  والتخاطب بالإشارات كذلك إشارت المرور والموسيقى وأنماط الأزياء في ارتباطها بالمواقف ودلالات الألوان وقوانين الألعاب الرياضية التي تنطبق على المشاركين أيا كانت لغاتهم والفنون التشكيلية. ووجه الالتقاء بين نظرية الجاحظ البيانية ونظرية السيميولوجيين تتمثل في تأسيس علم يدرس أشكال البيان الإنساني التي يمارسها البشر ويضعون لها نظاما محددا يتم التعامل به من خلال المواضعة، أي الاتفاق على هذا النظام بوحداته وقواعده بين أفراد المجتمع الإنساني.

    ومصطلح "التبيين" عند الجاحظ يمكن النظر إليه في ضوء نظرية النحو التوليدي التحويلي لتشومسكي إذا وضعنا في الاعتبار أن "التبيين" هو العمليات الذهنية التي يمارسها الفرد وهو يبحث عن الإمكانات اللغوية التي يمكن أن تحتوي أفكاره ومشاعره، باعتبار أن النحو التوليدي قدم للنظرية اللسانية المعاصرة مصطلحين في غاية الأهمية هما "الكفاءة" التي تعني قدرة الفرد على إنتاج اللغة من خلال الرصيد الذي يمتلكه و"الأداء" وهو الناتج اللغوي الفعلي الذي يتم في الممارسة الكلامية. فإذا نظرنا إلى مصطلح "التبيين" سنجد أنه عملية تحويل "الكفاءة" إلى "أداء"، إذ قد يتساوى البشر في الرصيد اللغوي ولكن القدرة على إنتاج الرسائل الفردية تختلف نتيجة المهارة الفردية في استخدام هذا الرصيد. بالتالي تتطلب البلاغة تدريبات بيانية هذه التدريبات ما هي إلا ممارسة عملية التبيين وتطوير نتائجها ليرتفع مؤشر الأداء الفردي.

    ويقدم الجاحظ  للنظرية السردية مقولات مهمة في "وجهة النظر" أو "المنظور" وذلك في رسالته "التربيع والتدوير" التي يتحدث فيها عن اختلاف الرؤية من شخص إلى شخص نتيجة اختلاف موقعه وموقفه وقدرته على قراءة انعكاس العالم في مخيلته ثم انعكاس الإحساس الإنساني على الموضوع الذي يتأمله العقل ثم انعكاس رؤية الإنسان في اللغة أو ما يمكن أن نطلق عليه نظرية "الحبر البراق".

    كذلك ناقش الجاحظ قضية الفصحى والعامية في الإبداع السردي داعيا إلى محاكاة حديث الشخصيات بلهجاتهم داخل السرد  فإذا كان القاص يقدم شخصية ريفية فإنه من الأفضل أن تتحدث هذه الشخصية بصوتها الريفي لأن اللغة عنصرا أساسيا في تصوير الشخصية وإنتاج المعنى.