النظرية الأدبية عند العرب
رؤية تداولية (سوق/ صناعة)
من سوق عكاظ إلى كتاب الصناعتين
د. س. قطب
هل الأدب سلعة؟
قد يرفض بعض محبي الأدب من أصحاب النظرة الرومانسية هذا السؤال لأن الأدب في تصورهم أرقى من تناوله باعتباره منتجا ماديا يتم تداوله في الأسواق مثله مثل السلع التي تكتسب قيمتها من مفهوم الاستهلاك الذي تنظمه عملية العرض والطلب وتتحكم فيه قوى الإنتاج التجارية الصناعية. فالأدب من منظور رومانسي أرقى من السلع الخاضعة لحسابات مادية ومعايير إنتاج وسياق استهلاك واحتياجات اجتماعية لأن الآداب كائن حيوي جمالي نابع من أعماق النفس التي تمتلك موهبة وتسعى للبوح وتتخفف بالتعبير دون أن تضع في اعتبارها حسابات المكسب والخسارة وتقدير قيمة العمل الأدبي من ناحية مادية فهذا يفقده خصوصيته. ولأن النظرة الرومانسية ترى المبدع مركزا للكون والرؤية ومعبرا عن إحساس خاص بصفته روحا غربية متفردة بالتالي يتشكل مفهوم الإبداع عندها من هذه الخصوصية التي تباعد بين العمل الفني وكل أشكال التحقق المادي التي يستهلكها المجتمع.
لكن أحدا لا يختلف على أن الأدب كيان تم إنتاجه مثلما يتم تداوله بين البشر لغايات مختلفة، بل إن النظرة إلى بعض الأعمال التي ينتجها الإنسان لغاية جمالية بحتة مثل التحف الفنية لا يمكن أن تلغي مفهوم السلعة عن هذه الأعمال التي تعرض في الأسواق فتباع وتشترى ويقدر الخبراء قيمتها التي تتزايد مع مرور الزمن، هذه الأعمال صادرة عن مبدع موهوب ماهر في تشكيل عمله الفني المتميز بالأصالة والمحتفظ بمقومات الاتساق والتناسق وكل ما يحقق له جماليات التكوين من منظور الذوق الإنساني المعاصر له بالفعل أو القادم في أفق الزمان. وكل شيء تم إنتاجه وتداوله وتقدير قيمته سواء اتفق المتخصصون من أهل هذه الصناعة على قيمته أم اختلفوا عليها فهو سلعة لها سوق لاستهلاكه من ناحية ولها معايير إنتاج متأثرة بهذا السوق من ناحية أخرى.
أطلق العرب القدماء على المكان الذي يعرضون فيه الشعر ويتناقشون بصدده ويبحثون عن أسباب جودته وسبل إتقانه والمآخذ الممكن اجتنابها فيما تم إنتاجه ويقدرون قيمته في ضوء إجادة صاحبه لعمله اسم "سوق عكاظ". بالطبع يقدم لنا تعبير "سوق" مفهوما تداوليا لعملية إنتاج الشعر بوصفه سلعة لها آليات صناعة ومعايير تتحكم في مادته وأغراض استهلاك يتوجه إليها صاحب الصنعة الذي أتى إلى "السوق" لمعرفة قيمة عمله والإفادة من آراء أهل الخبرة.
كان "سوق عكاظ" معرضا لتداول الشعر بوصفه منتجا مهما في حياة العربي يفيد منه ويستهلكه ويعيش به فالشعر من هذه الزاوية سلعة إن لم يكن من أهم السلع في سياق الاستهلاك، إن الشعر سلعة يتم توظيفها في السياسة والاجتماع والحياة العاطفية، سلعة لها قيمتها التداولية في أسواق التداول، سلعة لها سوق خاص بها هو "سوق عكاظ".
إذا واصلنا التظر إلى النظرية الأدبية عند العرب القدماء من خلال رؤية تداولية سنجد أن كلة سلعة تتطلب صناعة، فهي منتج مادي له معايير، هذا ما يؤكده أبو هلال العسكري صاحب "كتاب الصناعتين" وهما الشعر والنثر (الذي يؤدي دورا مهما في مؤسسات الدولة بوصفه مرتبطا بالدواوين الحكومية، بمعنى أن الكاتب البليغ الذي يكتب المراسلات الرسمية صاحب صناعة).
من الرؤية التداولية التي نتناول بها النظرية الإبداعية عند العرب والوظائف التي يؤديها الإبداع سنجد أن مصطلح "النقد" يؤدي دورا مهما في ترسيخ مفهوم "الإنتاج والقيمة" بالنسبة للأدب لأن مصطلح "النقد" يرتبط بدائرتين في أنشطة الحياة: دائرة الاقتصاد (النقد يعني العملة) ودائرة الأدب (النقد يحدد قيمة العمل الأدبي) وقديما ضرب ابن سلام صاحب كتاب "طبقات فحول الشعراء" مثلا للناقد الأدبي بالصيرفي الذي يعرف العملة الحقيقية (المصنوعة/ المسبوكة) من الذهب (الدينار) أو الفضة (الدرهم) من العملة الزائفة التي لا قيمة لها.