السبت، 29 أكتوبر 2011

                                 نظرية الانعكاس عند الجاحظ
                           نموذج الحبر البراق

    "الحبر البراق" يستشف الصور التي في نفس الكاتب، يتحول إلى مرآة تنعكس عليها الرؤية، إنه صفحة تشف ما في أعماق الأديب. إن وصف الحبر بالمرآة تعبير رائع لا يصدر إلا عن مبدع عبقري له رؤية فلسفية تنعكس في أعماله الإبداعية والنقدية على حد سواء. ويصف الجاحظ هذا (الحبر/ المداد) بأنه "البراق" أي المتألق اللامع الذي يكاد ينطق بما فيه. وهكذا الإبداع "حبر براق" مرآة شديدة الصفاء تنعكس عليها المرئيات. لكننا لا بد أن نتساءل عن طبيعة هذه المرئيات وأن نحدد مرجعيتها. فالمرآة تعكس صورة لمرجع ما، صورة وليست واقعا ملموسا، لأن الرائي لن يستطيع أبدا أن يمسك بذاك الكائن في أعماق المرآة، ربما يتعرف من خلال الصورة على صاحبها باعتبار أن الصورة "أيقونة" تدل مباشرة على المرجع كما يقول علم العلامات ولكن هذه الدلالة ستظل غير يقينية ولعل هذا المفهوم يطرح نفسه أمامنا الآن في النظرية المعرفية المعاصرة أكثر من أي وقت مضى فمن الممكن "تزوير" الصورة بوضعها في غير سياقها أو قطعها ووصلها بصور أخرى أو "تزييف" المرجع بإحلال مرجع آخر يشبهه مكانه، هذه الأمور كلها سائدة في إنتاج الإعلام المعاصر، بالتالي فإن انعكاس الصور لا يدل بالضرورة على مرجع بعينه، كما أن هذا الانعكاس يتوقف على طبيعة المرآة وموقع المرجع الذي تراه ومسافته وحركة من يمسك بهذه المرآة إذا كانت متحركة أو حركة (الموضوع/ المرئي) منها إن كانت ثابتة.

    إذا كان الوضع التمثيلي لماهية الرؤية هكذا من خلال نموذج "الحبر البراق" هذا النموذج القائم على أربعة عناصر: "المرجع والمرآة وفعل المعالجة والصورة المنعكسة" فكيف الحال بالنسبة لهذا التشبيه في الأدب نفسه؟ بمعنى ما المرئيات التي تنعكس في "الحبر البراق"؟ إن هذا الحبر يصور الأعماق كما هو الحال في الأشعة التي تخترق الحاجز المادي لتصل إلى القلب، الحبر البراق يلتقط الصور الخافية الهلامية التي تجول في المخيلة سواء أكانت هذه المخيلة فردية لأديب بعينه أم جمعية كما هو الحال في الفنون الشعبية، هذه الصور لا تنطبع بتلقائية في "الحبر البراق" وإنما عبر عملية إدراك متعددة المراحل والعناصر.

    مراحل الانعكاس وعناصره :

    حينما يتحدث الجاحظ عن "الحبر البراق" الذي يمتص الصور ويعكسها فإن الباحث عليه أن ينظر إلى هذا التعبير بوصفه نوعا من المجاز فهو كناية تشير إلى البيان البليغ الذي يحمل رؤية ما للعالم، إن المبدع الذي استخلص من داخل مخيلته صورة معينة وصبها في المداد خاض رحلة إدراك متعددة المراحل لأن تكوين الصورة داخل مخيلته أولا يعد ناتجا لعملية انعكاس ثم تقوم تلك الصورة التي تشكلت على صفحة ذهنه للعالم بامتصاص مشاعره وانفعالاته فتنعكس عليها نفسه ثم تحدث عملية معالجة بيانية أو عملية "التبيين" إذا استندنا إلى أحد المفاتيح البلاغية في فكر الجاحظ وفي عملية "التبيين" تصفو الرؤية الإبداعية وتجد لنفسها طريقا في الأفق البياني وتتسلل إلى العالم الزجاجي المصقول، عالم العلامات والرموز، عالم الأبجديات التي اتفق عليها العرف الإنساني لجماعة ما، وحينما تمس رؤية المبدع ذاك الزجاج فإنها تتشكل في كيانه لكنها تقوم بتلوين هذا الكيان من داخله وتطرح صورها في فضائه وربما كانت تلك الرؤية قادرة في بعض الأحيان على تمديد مساحة ذاك الكيان الزجاجي لأنها تمتلك من الطاقة الحرارية ما يسمح لها بصهر مادته وتشكيلها على نحو جديد.

    إن فعل المعالجة الذي يقوم بتحويل المرجع إلى صورة أوعملية الانعكاس نفسها من هذا التصور ثلاثية الأبعاد أو المراحل: فهناك مرحلة انعكاس العالم في الذات ثم مرحلة انعكاس الذات في الصورة المتخيلة للعالم ثم أخيرا مرحلة انعكاس الرؤية الناتجة عن ذاك الجدل أو الاشتباك بين الذات والعالم في الأبجدية البيانية فيتم إنتاج النصوص بالمعنى الشامل للفنون التعبيرية (النص الأدبي/ المدونة الموسيقية/ اللوحة التشكيلية.. الخ). في كل مرحلة من هذه المراحل يحدث انعكاس ما: العالم ينعكس في الذات التي تنعكس بدورها في صورة العالم موضوع التأمل ثم ينعكس ناتج التأمل في النص.

    لابد من ملاحظة أن الشيء (المرجع/ المدرك) له وجود خارج الذات، له حضور في اللحظة، له تاريخ، له ظاهر وأعماق. وأن أداة الاستقبال لها قدرات مادية متفاوتة ومحدودة ومتنوعة. فالصفحات التي تستقبل (حضور الشيء) وتعكس وجوده لها معدنها المتغير، لها درجات من النقاء طبقا للمادة المصنوعة منها. وبينها وبين الجسم المرئي (المرجع/ الموضوع) مسافات تحدد طريقة انعكاسه فيها وحضوره على سطحها. وبالطبع فإن (الصفحة/ المرآة) هنا رمز فالمقصود هو المخيلة الإنسانية. وإذا كانت وسيلة الاستقبال تختلف فتؤثر على الصورة التي تعكسها فإن الأذهان لا تصل إليها رؤية واحدة بل تصل إليها مادة ناقصة ويظل الإنسان يسعى إلى مزيد من الرؤية التي توضح له جماليات عالمه بوصف الجمال سبيلا للمعرفة إن لم يكن معرفة في حد ذاته. والأذهان أيضا تختلف في قوتها ووعيها والخبرات التي تحكم عمليات إنتاجها لصورها على نحو مقيد لا يصل إلى عمق الظواهر، لذلك سنجد بين البشر فروقا في الحكم على الأشياء ناتجة عن تمسكهم بصور ذهنية جامدة تشكلت على صفحات إدراكهم.

الجمعة، 21 أكتوبر 2011

نظرية الانعكاس في النقد العربي


الحبر البراق:

نظرية الانعكاس في النقد العربي

دراسة في "رسالة التربيع والتدوير"

د. س. قطب

        الجاحظ أديب وعالم ومفكرعاش حياته في البصرة ما بين (159 – 255هـ ) أي أنه شارك في الحياة الثقافية لنحو ثلاثة أرباع القرن.. إذا وضعنا في الاعتبار أنه بدأ هذه المشاركة الفعلية بعد مرحلة التأسيس التي شهدت طفولته وصباه ومطلع شبابه.

   عاش الجاحظ أزهى عصور الحضارة العربية وبخاصة زمن هارون الرشيد أكثر الخلفاء العباسيين شهرة. وأبدع في زمن الأمين والمأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمستعين والمعتز. وظل يقرأ ويكتب حتى آخر لحظة من حياته بعد أن تجاوز تسعين عاما بسنوات حين سقطت فوقه الكتب فلفظ أنفاسه الأخيرة راحلا في صحبة من يحب.

    شارك الجاحظ بعقله وقلمه في رسم خريطة الثقافة العربية وهي تؤسس مكتبتها الإنسانية الكبرى. إنه عصر التأليف والترجمة. عصر الإبداع في الشعر والقصة والرسائل. عصر النهضة العربية في العلوم والفنون. إن الجاحظ من أهم العلامات التي تحفظها الذاكرة الثقافية العربية ويفخر بها الرصيد الفكري الإنساني. ورصيده في مكتبة الآداب العالمية مازال يستثمر في كل لحظة لأن آراءه مازالت تخاطب الأفق الحضاري للإنسان. وهذا هو حال كبار المفكرين.

    عاش الجاحظ مفكرا حرا. يبدع في الآداب والعلوم والفنون. ومن أعماله "كتاب البخلاء" و"كتاب الحيوان" و"كتاب البيان والتبيين" و"المحاسن والأضداد" ورسائل كثيرة من بينها "رسالة التربيع والتدوير".

    نظرية الانعكاس في التربيع والتدوير:

    رسالة التربيع والتدوير بحث في مشكلة الرؤية. فالجاحظ يتساءل فيها عن حقيقة ما يراه الإنسان وعن العلاقة بين الرؤية العينية والرؤية الذهنية وعن قصور حواسنا في كثير من الأحيان وعقولنا في بعض الأحيان. يقول الجاحظ في التربيع والتدوير موجها حديثه إلى المتلقي:

    "وأنا –جعلت فداك- أعلم أني أسمع ولا أعقل كيفية السمع. وأعلم أني أبصر ولا أعقل كيفية البصر. ولا أدري أمعدن العقل الدماغ والقلب بابه وطريقه كما أن معدن اللون جميع النفس والعين بابه وطريقه أم معدن العقل القلب دون الدماغ. أو لعلهما موصولان غير مقطوعين. وقد اعتل قوم للدماغ بأن جميع الحواس في الرأس. واعتل قوم بالجس.. وبما يجدون في قلوبهم من الرعب والاضطراب وغير ذلك."

    إن الجاحظ يتحدث عن ثلاثة مدخلات حسية: السمع والبصر والجس. والسمع مدخل الصوت والبصر مدخل الصورة. هنا يربط الجاحظ بين الصوت والصورة ربطا أساسيا في عملية اكتساب المعرفة لكنه يضيف عنصرا ثالثا هو الجس وما يثيره في النفس من اضطراب، أي أن هناك البعد الثالث الذي يجب إضافته للصوت والصورة، هذا البعد الثالث هو الحركة.

    إن بداية الحصول على المعرفة تتمثل في المدخلات البيانية عن طريق الصوت والصورة ولكن لا بد من الحركة التي تثير في النفس انفعالا فتطلق فيها الرغبة في تحويل الرسالة البيانية التي تلقتها إلى إلى موضوع تأمل يمكن النظر فيه والوصول من خلال النظر إلى نتيجة تسكن إليها النفس المتوترة المنفعلة بالبيان. أي أن الحركة الشعورية هي مفتاح عملية التبيين التفسيري، أي تحليل الوحدات البيانية. وتفسير البيان وتحليله سيؤدي إلى إنتاج وحدة بيانية جديدة من ذهن الذات المنفعلة، أي يتحول المتلقي إلى مرسل.

    وفي أعماقنا يتحول الصوت إلى صورة وتتحول الصورة إلى صوت. فهناك علاقة وثيقة بين السمع والبصر وهناك ربط بين الحاستين تقوم به اللغة. نحن نسمع اللغة ونرى بها أيضا ثم نتأثر حينما تلمس اللغة نفوسنا. هنا يحدث تحول لحاسة اللمس أو فعل الجس، يتحول اللمس الحسي إلى لمس رمزي، لمس لغوي. تجس اللغة إحساس المتلقي وتؤثر في مشاعره فتثير فيه توترا وجدانيا يحرك ذهنه إلى محاولة الفهم والإدراك.

    ويتعرض الجاحظ في رسالة "التربيع والتدوير" لقضية الرؤية ويخصها بالمناقشة فيقول لقارئه:

    "وخبرني عن المرائي وكيف صارت ترى الوجوه ويبصر فيها الخلق. وكذلك كل أملس صقيل وصاف ساكن كالسيف.. والقوارير والماء الراكد. حتى الحبر البراق."

    هذا المقولة التي يضعها الجاحظ مع قارئه (الافتراضي) تطرح قضية الرؤية: ما العلاقة بين الأشياء وصورتها؟ وكيف تنعكس هذه الأشياء على سطح يستقبل صورتها ويحتويها ويحتفظ بها؟ وكيف تستقبل الأذهان عن طريق العيون تلك الصور؟

    ويلاحظ القارئ الكريم أن الجاحظ استحضر مجموعة من (المرائي: الصفحات) التي تستقبل الصورة منها العين والمرآة والسيف والقوارير والماء الراكد والحبر البراق. و"الحبر البراق" هو ما يهمنا في هذه الورقة على وجه التحديد. ويرى الجاحظ أن هذه (المرائي: الصفحات) تتميز بأنها ملساء صقيلة صافية. إن الجاحظ تحدث بذكاء شديد حينما وضع "الحبر" مع هذه (المرائي) فكأنه يشير إلى انعكاس المرئيات التي تسري في نفوسنا على صفحات أوراقنا حين نكتب. وهذه رؤية جميلة وعميقة في نظرية النقد عند الجاحظ.

    إن "الحبر البراق" يمتص الصور التي في نفس الكاتب، يتحول إلى مرآة تنعكس عليها الرؤية، إنه صفحة تشف ما في أعماق الأديب. إن وصف الحبر بالمرآة تعبير رائع لا يصدر إلا عن مبدع عبقري له رؤية فلسفية تشكلت منها نظريته النقدية. ويصف الجاحظ هذا (الحبر/ المداد) بأنه "البراق" أي المتألق اللامع الذي يكاد ينطق بما فيه. وهكذا الإبداع "حبر براق" مرآة شديدة الصفاء تنعكس عليها المرئيات. لكننا لا بد أن نتساءل عن طبيعة هذه المرئيات وأن نحدد مرجعيتها. فالمرآة تعكس صورة لمرجع ما، صورة وليست واقعا ملموسا، لأن الرائي لن يستطيع أبدا أن يمسك بذاك الكائن في أعماق المرآة، ربما يتعرف من خلاله على صاحبه باعتبار أن الصورة "أيقونة" تدل مباشرة على صاحبها، لكن انعكاس الصور لا يدل بالضرورة على مرجع بعينه إذ يتوقف هذا الانعكاس على طبيعة المرآة وموقع المرجع الذي تراه ومسافته وحركة من يمسك بهذه المرآة إذا كانت متحركة أو حركة المرجع (الموصوف/ المرئي) منها إن كانت ثابتة.

    إذا كان الوضع التمثيلي لعملية الإبداع هكذا من خلال نموذج "الحبر البراق" هذا النموذج القائم على ثلاثة أبعاد: "المرآة والصورة والمرجع" فكيف الحال بالنسبة لهذا التشبيه في الأدب نفسه؟ بمعنى ما المرئيات التي تنعكس في "الحبر البراق"؟ إن هذا الحبر يصور الأعماق كما هو الحال في الأشعة التي تخترق الحاجز المادي لتصل إلى القلب، الحبر البراق يلتقط الصور الخافية الهلامية التي تجول في المخيلة سواء أكانت هذه المخيلة فردية لأديب بعينه أم جمعية اجتماعية كما هو الحال في الفنون الشعبية.

الأربعاء، 19 أكتوبر 2011


                                        النقــــد مقال في المصطلح

       
    مصطلح النقد أتى من مادة "نقد", والأصل المادي للفعل (نقد) هو التقاط الطائر للحب من الأرض, وفي هذا المعنى يلتقي الفعل (نقد) مع الفعل (نقر) أو يصبح تطورا له في الدلالة, فالنقر عملية بحث بالمنقار في الأرض يقوم بها الطائر للوصول إلى الحبوب التي يمكن له أن (ينقدها) أي يلتقطها من بين الحصى والتراب, فالنقر بداية اختبارية  لمعرفة طبيعة الأرض التي يسكن فيها ذاك الطائر, إنه حركة في المكان لاكتشاف سماته ودرجة غناه وفقره وكيفية التعايش معه والسكن فيه والحصول على الغذاء منه.

    لا يقف رافد مادة (نقر) في مادة (نقد) عند حد البحث والاختبار للوصول إلى الحبوب وتمييزها, هذا المعنى الذي سيتجه إلى البحث في النصوص وما فيها من جمال بياني مشحون بالقيم الدلالية, ولكن مادة (نقر) تمنحنا صورة تمثيلية لعلاقة المبدع والنقد من خلال لفظ (المناقرة) الذي أصبح دالا على (المنازعة) فمثلما تتنازع الطيور بمناقيرها يتنازع البشر بأفواههم, بكلماتهم, وكأنه يوجد بين النص الإبداعي والنص النقدي نوع من المناقرة والتدافع مثلما يحدث بين الطائرين, والمثل العربي يقول (الطيور على أشكالها تقع).

    بعد قيام الطائر بعملية (النقر) تكون عملية (النقد) التقاط الحبوب بعد تمييزها.

    ولا بد من ملاحظة المشترك الصوتي في المادة المعجمية لأن هذا المشترك يؤسس لتفاعل دلالي بين المواد في المعجم العربي, وفي هذا الصدد سنجد أن مادة (نقد) تلتقي مع (نقر) ومع (نقي) في دلالات البحث والاختبار والاختيار والاكتشاف والتمييز.

   وحينما نستمر في مصاحبة المعجم العربي بحثا عن الروافد التي تستمد منها مادة (نقد) حمولتها الدلالية, وبالتالي تسمح لها هذه الحمولة أن تشكل مجالا تتحرك فيه بقوة كما تتحرك الطاقة المغناطيسية في مدارها, سنجد أن مادة (نقب) تشترك مع مادة (نقد) في دلالة البحث وأن هذا البحث يتعامل مع العناصر المادية التي تعد الأرض أصلا لها ثم يتطور البحث في اتجاه المعاني والأفكار, ومادة (نقب) تمثل مركزا للبحث في الأشياء المادية, فالنقب هو عملية ثقب في الجلد أو الجدار يقوم بها فاعلها لاختبار المادة أو تشكيلها أو البحث فيها, ولنا أن نتصور هنا حركة الطائر بمنقاره وهو (ينقر) الأرض ليعرفها ويختبرها لكي نرى العلاقة بين (نقر ونقب), أما علاقة (نقد ونقب) فهي تقوم على دلالة مشتركة هي البحث أيضا من أجل الوصول إلى شيء جديد نافع, شيء لم نصل إليه بعد لكنه يستدعي حواسنا وأذهاننا لكي نلتقطه, وما أكثر المعاني المحيطة بنا وهي تدعونا لاكتشافها, كما تستدعي الأرض المكتشفين, وكما تستدعي قوانين الطبيعة العلماء لرصدها والإفادة منها.

    تلتقي مادة (نقب) صوتيا ودلاليا مع مادة (نقد) ولكن (نقب) تلتقي أيضا مع (نفق) التي قد يراها البعض بعيدة في مجالها الدلالي عن (نقد) ولكنها قريبة ومتداخلة, ولم يكن بوسعنا معرفة هذه العلاقة إلا برصد علاقة (نقب) مع (نفق) أولا, فأصل النقب ثقب (لاحظ المشاركة الصوتية) يأتي من اختبار المادة, وهذا ما يجعل دلالة (نفق) تأتي أمامنا, فالنفق ثقب في الأرض يمر فيها للوصول من مكان إلى مكان, مثلما هو الحال في عملية (نقب) الجلد أو الجدار.

    ما علاقة (نفق) بمادة (نقد) ودلالاتها؟

    إن من يريد الوصول من نقطة إلى نقطة في قلب الأرض عليه أن يحفر نفقا, أي عليه أن يمهد الأرض من داخلها كي يستطيع العبور فيها, والنقد عبور في النصوص, رحلة في أرض من الأفكار والمعاني, رحلة على الرحالة أن يخوضها في قلب النص, إن الناقد يشق طريقا ذهنيا داخل النصوص, فكأنه يصنع أنفاقا تمهد له السير في عالم متشابك, وهذه الأنفاق التي يسير فيها النقاد ليست سوى مناهجهم المختلفة التي تساعدهم على الرحلة في النص حينا وتعوق بينهم وبين حرية الحركة الروحية والذهنية في أبجدية الجمال أحيانا, ومازالت (أنفاقنا) النقدية محدودة تقيدنا في رحلة المعرفة التي تتطلب تنمية للذوق الجمالي وروح المغامرة.

    في المجال الدلالي للبحث والاكتشاف سنجد أن مادة (نقد) تلتقي أيضا مع مادة (نكت) التي تعني استخراج الأشياء من مكانها لتحديدها ومعرفتها وتمييزها, فالنقد في الآداب والفنون نوع من النكت, نوع من البحث عن الأشياء التي تمنح أشكال البيان خصوصيتها وجمالها.

    إذا نظرنا إلى مادة (نقح) سنجد أنها تصاحب مادة (نقد) في منطقة دلالية شديدة الأهمية هي تلك المنطقة التي تشهد مولد العمل الإبداعي ووضع اللمسات الأخيرة له قبل تقديمه للجمهور, فالتنقيح هو النقد الذاتي, هو تهذيب العمل من جهة صاحبه, إنه عمل ثقافي يحتفي بالآخر ويهتم بذوقه واهتماماته وحاجاته الجمالية والذهنية, والطريف أن مادة (نقح) تلتقي مع مادة (ثقف) في دلالة التهذيب هذه, فالأصل المادي للفعل (ثقف) هو تثقيف الرماح, أي تسويتها, أما الأصل المادي للفعل (نقح) فهو تشذيب العصا أو الجذع, وكل ما نحيت عنه شيئا فقد نقحته كما جاء في لسان العرب, ومن المعاني المادية الطريفة التي تساعدنا على فهم العلاقة بين (نقح) و(نقد) قول العرب (نقح العظم إذا استخرج مخه) و(تنقح شحم الناقة أي قل) فالدلالة المعجمية الأولى لمادة (نقح) تمنح مادة (نقد) ثلاثة روافد دلالية مهمة: الرافد الأول يتعلق بالوصول إلى جوهر الشيء واستخراجه, كما يصل من يأكل إلى المخ الموجود في قلب العظم, والرافد الثاني هو الجمال الشكلي المرئي المحسوس كما هو الحال مع الناقة التي قل شحمها, والرافد الثالث هو تهذيب الشيء وتخليصه من كل زيادة تعلق به وتعوقه عن وظيفته العملية.

    بالطبع أفادت مادة (نقد) كثيرا من مادة (نقح) التي تشترك معها في بعض عناصرها الصوتية, مما يعني أن المشاركة الصوتية تعد مدخلا مهما يضع نفسه أمام الباحث عن المعاني التي تزداد ثراء من خلال المشاركة الدلالية.

    وظلت مادة (نقح) محتفظة لها بمساحة مهمة في عملية إنتاج النصوص الإبداعية فهي فعل الناقد الأول, والناقد الأول هو المبدع ذاته الذي ينقح عمله قبل نشره.

    تلتقي مادة (نقد) مع مواد أخرى مثل (نقض) التي تعني هدم بناء, ويجب أن نلاحظ العلاقة الدلالية بين (البناء) و(البيان) وهي علاقة تصبح مفهومة تماما إذا أخذنا بنظرية ابن جني في الاشتقاق الأكبر, بمعنى أن هناك دلالة تشترك فيها المادة المعجمية الثلاثية مهما اختلف ترتيب أصواتها.

    إن النقد أحيانا يمثل هدما لعمل, لأنه يضرب السلبيات التي تأسس عليها, بل إن النقد إذا نظرنا إليه بوصفه قراءة للعمل من زاوية ما, قد يكون فيه هدم لفكرة العمل أو لمفهومه أو لخصوصيته أو لكثير من معانيه, فالناقد يخرج من العمل بنصه الشخصي تاركا خلفه نص المبدع وقد هدمه ووقف على بعض أنقاضه بعد أن قرأه بوعي أو فرض عليه من عنده رؤية ما, وفي بعض الأحيان يستمد الجمهور رأيه من النقاد دون أن يعود كثير من القراء إلى النص الإبداعي ذاته.

    وتأتي مادة (نقص) لترتبط بهذه الدلالة, فالنقد من جهة نشاط عقلي يضع في اعتباره البحث عن النقائص, ومن جهة أخرى فإن النقد قراءة ناقصة للعمل الإبداعي لأن كل قراءة لنص إبداعي لا يمكن أن تستوعب القيم الجمالية الكلية له.

    أما مادة (ندد) التي منها التنديد فترتبط بالنقض والهدم والنقص وكل هذه المعاني السلبية ولكن هذه المادة تقدم فكرة إيجابية رائعة وهي (الندية) التي تعني أن النص الإبداعي يتطلب ندا له, وكلما كان العقل النقدي ندا لتجليات الوعي الإبداعي ازدادت مساحة المتعة الجمالية بين النقد والإبداع واستمتع القراء بالمنازلة الذهنية التي تحقق لكل ذات حضورها في رحلة الاكتشاف البياني, وهذا المعنى نلتقي فيه مع جوهر نظرية الوسطية لعبد الحميد إبراهيم, فالوسطية التي تمثل الرؤية العربية للعالم في فكره تعني قدرة العقل الجمعي على الاحتفاظ بقوة الطرفين المتقابلين في مساحة متحركة, ولا تعني البحث عن الوسط الذهبي الثابت كما هو الحال في فكر أرسطو, بالتالي فالناقد الحقيقي في معالجتنا هذه لأصل المادة (نقد) يتحرك في مساحة شاسعة بين قمة المنهجية العلمية الملتزمة بالمفاهيم والمقولات والإجراءات من جهة ورحابة الروح الحرة التي تسمح بالتوهج الذهني والشعوري للناقد من جهة أخرى, ولا يوجد ناقد فذ يستطيع أن يتعامل مع النص بمنهجية العالم على حساب تقييد الرؤية الإبداعية التي تفتح له آفاق الإبحار في عالم البيان الحافل بالجمال, ويصبح من الخطأ توهم أن النقد علم خالص, وأن تعليم النقد يعني نقل مجموعة من المعايير الفكرية والإجرائية إلى ذهن القارئ, لأن تكوين الناقد الحقيقي يكون بإطلاق حرية التأمل والقدرة على المغامرة الواعية التي يقتنص فيها الناقد كنوز المعاني من قلب البيان الجميل أو يرصد أشجار البان في الفضاء النصي والمسافات البيانية.